إشكاليات المسرح كثيرة ومتعددة.. وهي ممتدة ومتجددة عبر العصور.. ابتداء من ماهية المسرح وصلته بالمجتمع مرورا بإشكالية النص والعرض المسرحي، والشكل والمضمون، وتعدد المدارس والاتجاهات، الكلمة أم الصورة، وأن البعض ينظر إلى المسرح على أنه ترف اجتماعي لا ضرورة. لا نريد أن ندخل في هذا المقام في تبرير وإبراز أهمية المسرح التي لا تخفى على كل مسرحي ومثقف.. وهنا أقدم المسرحي على المثقف لأنه يجب أن يكون كل مسرحي مثقف، وليس بالضرورة أن يكون كل مثقف مسرحي.. ويبقى السؤال أين أنت أيها المسرحي من كل هذا ؟.. (الترف الاجتماعي) مادامت رسائلك سامية ماذا فعلت حيال ذلك لتوضيح وإيصال هذه الإيجابيات، ومهما يكن هناك من تحديات أو معوقات إن صح التعبير فهذه موجودة في كل مكان وزمان، وكانت أكثر من ذلك في بعض الدول التي هي الآن ومنذ فترة طويلة تدرس المسرح في المدارس، بل إنها (تدرس بالمسرح). إذا أعتقد جازما أن هناك ثمة خلل وقصور عند ثلة من المسرحيين لتوضيح وإبراز هذه الأهمية وفتح قنوات للاتصال والتواصل مع المجتمع، أما أن نبقى مسرحيين معدودين (قلة) نمثل جيل أو جيلين ونقدم لأنفسنا.. مسرحياًَ هذا يجوز، وقد تقدم عملك لأشخاص لا يتجاوزون عدد أصابع اليد، فإذا كان يجوز فهو لا يعني أن تكون هذه هي رسائل المسرح وأهميته.. نعلم جميعا كمسرحيين أن رواد المسرح في الغالب هم من المسرحيين فقط وبعض من الإعلاميين وأصدقاء الممثلين وقلة قليلة جدا ممن لا تربطهم صداقات أو علاقات مع طاقم العمل.
اسمحوا لي أن أثقل عليكم في سرد القليل والذي لا يخفى على الكثير منكم (قصة مسرح الأحساء) لعلنا من خلالها نستشف شيئاً ليكون لنا عوناً على تحقيق بعض من طموحنا. إنهم سادة أفاضل ما زال أغلبهم يردد دون قصد مقولة سعد الله ونوس الأخيرة: (نحن محكومون بالأمل )، كان أملهم قبل أكثر من خمسة وثلاثين عاماً أن يكون لهم مظلة يستظلون بها مسرحياً... وبجهود فردية منهم كمجموعة وبتخطيط وعزيمة وهمة أسسوا هذه المظلة (جمعية الفنون الشعبية) آنذاك، لا أريد أن أطيل... فأصحابها لهم الحق بالتفاصيل، ولكن هؤلاء استجابت الدولة مباشرة لمبادرتهم وطموحهم المشروع فأصبح الفرع قبل الأصل بتأسيس جمعية الثقافة والفنون، أعتقد أعزائي أن هذه فيها من العبر لنا جميعاً الشيء الكثير.
الأهم من ذلك فمنذ ذلك الوقت وحتى هذه اللحظة.. ما زال عطاؤهم... لأن بداخل كل واحد منهم (فنان).. لم يسعوا إلى شهرة فردية أو مال، على عكس الذي تنحى منهم آنذاك وتفرغ إلى تجارته... همهم ثقافي وفكري وخدمة الوطن، حتى لو ابتعد أحدهم إدارياً عن المظلة (الجمعية) فهو لم يبتعد تواصلاً وإبداعاً وعطاءً.. رحم الله (عبدالرحمن المريخي) عندما تبنى مسرح الطفل وأبدع وهو رائده خليجياً، لم يكن يبحث عن هذا المسمى أو اللقب، كان يبحث عن مشاهدة أطفال الأمس هم رجال اليوم.. إنه يسعد عندما يرى الطفل (سامي الجمعان) في ليلة النافلة.. هو سامي الجمعان مدير الجمعية الآن، يسعد عندما يرى (علي الغوينم، يوسف الخميس، عبدالله التركي، إبراهيم الحساوي، نوح الجمعان، .... وغيرهم الكثير) هم حملة وورثة هذا اللواء. سعادته لا تقل عن سعادة أول المؤسسين.. عبدالرحمن الحمد، عمر العبيدي، حسن العبدي.. (هذه الأسماء للاستدلال فقط) وهم موجودون حتى هذه اللحظة في الهم المسرحي، بل وأنهم يقفوا كممثلين على الخشبة جنباً إلى جنب مع طفل أو ممثل يقف لأول مرة على خشبة المسرح (بعد أن أدى دوره في العرض المسرحي قبل أيام عبدالرحمن الحمد يهمس في أذن ممثل شاب متدرب على الخشبة: ها.. كيف شفت حركة دخولي مع النخلة على المسرح.. شرايك.. حلوة؟). دعني أقول نيابة عن هذا الشاب... في المسرح ندرب الممثلين على الاتصال الوجداني فيما بينهم.. لا أدري.. أهي النخلة أخذت منك معنى العطاء؟ أم تعلمت منها أن تكون باسقاً بعطائك.. لتميل وتهمس بأذن الشاب هذا الدرس. وفي العمل المسر حي نفسه (الاوبريت) وفي أول تدريب عملي على الخشبة وبوجود أكثر من خمسين ممثل في العمل.. الأستاذ عمر العبيدي يدخل ليؤدي دوره، فكان هو الوحيد الذي أحضر ملابسه المسرحية واكسسواراته.. لا أملك في هذا الموقف إلا أن أقبل رأسه، ولا داعي مني أو من غيري لأي تنظير حول أهمية ذلك. هؤلاء وغيرهم هم الشركاء في المختبر المسرحي بجمعية الأحساء، وهنا تعود بي الذاكرة القريبة حول أهمية مثل هذا المختبر والبدء بالدورة المسرحية وانتساب عدد كبير من الموهوبين والمهتمين بالمسرح. ولسان حال رئيس قسم المسرح الأستاذ علي الغوينم يقول: عدد كبير ولا يوجد في الخطة السنوية سوى عملين، واحد للصغار، وآخر للكبار، وأنا أردد وبدون قصد (نحن محكومون بالأمل)، إذا لم نكسب مسرحيين موهوبين نكون قد كسبنا متذوقين وجمهور يؤمن برسائل المسرح وأهميته. وتستمر المسيرة.. وقبل شهور ينتسب أربعون متدرباً كلهم جدد (مبتدئين) ولسان حالي يقول: عدد كبير والخطة السنوية كما هي، وبدون قصد أيضاً يقول الغوينم: (نحن محكومون بالأمل). آمل أن هؤلاء المتدربين قسم منهم معلمين سوف ينقلوا هذه التجارب إلى مدارسهم، والجامعيين إلى جامعاتهم، والبعض يتصدروا الأعمال المسرحية التي تقام في الأماكن الترفيهية والتنشيط السياحي ونبقى نشرف عليهم، على الأقل نضمن أن يقدموا أعمالاً ذات قيمة وبوعي تام. وهاهو المعلم: يحيى الغماري رئيس قسم المسرح بجمعية تبوك يأخذ إجازة من عمله خصيصاً ليلتحق بدورة مسرحية بالأحساء... وهكذا يتحقق الأمل شيئاً فشيئاً بالعمل الدءوب والإيمان بعد الإيمان بالله عز وجل بأهمية ذلك وجدواه، بعيدا عن ال(أنا). وما يزال آخر إنتاج للمختبر المسرحي بالجمعية مسرحية (طرفة على الجسر) وهي للمؤلف الأستاذ عبدالعزيز السماعيل، وهذا هو حال أي مختبر مسرحي أو فرقة مسرحية، يجب أن تتعدد مشاربها (تجاربها) من حيث التأليف وهذا هو أصلا حال المسرح في الأحساء، الكتاب محليون وعرب وعالميون، وهذا أيضا في مختبرنا القائم بل أنه أحيانا يولد النص أثناء التدريبات. مسرحية (طرفة على الجسر) اشترك بها طاقم يمثل جميع الأجيال المسرحية ابتداءً من الأستاذ عبدالله المجحم في دور المتلمس (أكثر من ثلاثين عاماً في المسرح) مروراً بجيل عبدالله التركي وجيل نوح الجمعان وجيل سلطان النوّه وفيصل المحسن، وانتهاءً بممثل لأول مرة يقف على الخشبة بجانب هؤلاء. هذا هو مسرح الأحساء، المسرح الحقيقي ليس حكراً على أحد بعينه، منتسبي قسم المسرح والمتواصلين معه أكثر من مائة وخمسين مسرحياً فاعلين، أنشطة مسرحية متعددة طوال العام يحتفل ويتواصل في مختلف المناسبات المحلية والدولية، أيضاً عدا الخطة السنوية المعتمدة. مسرح يتواصل مع الجمهور كافة.. مع النخبة ومع من يشاهد المسرح لأول مرة، مسرح ينمو ويكبر بهمّة رجاله وعطائهم، مسرح الأسرة الواحدة، الاختلاف فيه لا يقود إلى خلاف. ما يدهشني ويفزعني عندما أسمع أحد المخرجين من الشباب المبتدئين يرد على استفسار أحد المشاهدين ويقول له بما معناه: (ليس ذنبي أنك لم تفهم ما أعنيه، فأنا أقدم ما بعد الحداثة) ... وعبدالرحمن الحمد (المعاصر) يهمس بأذن الشاب... رحمك الله يا عوني كرومي عندما تخاطب تلميذك (يا أستاذي) ومبررك بأنك تتعلم منه...