يجد القارئ في كثير من الروايات العديد من المعلومات والقصص ذات البُعد الواقعي، واحتشاد الرواية بالمعلومات من أسماء وتواريخ وأحداث واقعية يكسب الرواية ميزة عن غيرها، ويمنحها طابعاً واقعياً، فيعيشها القارئ ويتفاعل مع أحداثها أكثر مما لو كانت خيالية، وخالية من الأحداث التاريخية، فلو نظرنا إلى الرواية الشهيرة التي دوت أرجاء الأرض (شيفرة دافنشي) لوجدنا فيها مسميات واقعية من دول ومدن وأحياء، ولم يكن هذا فحسب بل إن الكاتب دان براون كتب في مقدمة كتابه تحت عنوان حقائق: إن (جمعية سيون الدينية هي جمعية أوروبية سرية تأسست عام 1099م، وهي منظمة حقيقية) إلى أن قال: (إن وصف كافة الأعمال الفنية والمعمارية والوثائق والطقوس السرية في هذه الرواية هو وصف دقيق وحقيقي)، والرواية التي بين يدينا (شقة الحرية)، التي لم يُسمح بتداولها في السعودية إلا مؤخراً، لم تخل من الوقائع ووصف للأحداث الحقيقية التي حدثت في تلك الحقبة خصوصاً في مصر، واحتوائها على عدد من العلوم النفسية والاجتماعية.
وقبل أن استعرض شيئاً من هذه العلوم أحب أن أشير إلى أن (شقة الحرية) ل (غازي بن عبد الرحمن القصيبي) تُعد واحدة من أجمل الروايات العالمية، حيث أبدع الكاتب في سرد قصة هؤلاء الشباب الذين سافروا إلى مصر للدراسة في الخمسينيات وأوائل الستينيات من هذا القرن، وفي تلك الحقبة شهد العالم العربي أحداثاً كبيرة، قد تغيب عن أذهان الشاب العربي، لذا يتعرف قراء هذه الرواية الشباب خصوصاً على أهم الأحداث والمشاريع الضخمة التي قام بها جمال عبد الناصر الذي التفت آمال العرب في كل مكان حوله، من تأميم شركة قناة السويس العالمية، شركة مساهمة مصرية، وبناء السد العالي، وكسر احتكار السلاح، واستقطاع الأراضي الزراعية وإيجاد القومية العربية، وما كانت لتمضي هذه الإصلاحات دون عواقب من الغرب المتربص فكانت النتيجة العدوان الثلاثي على مصر 1956، ومن هنا يحيي الكاتب روح الشباب حين تقدم (يعقوب) وهو من البحرين للتطوع، الأمر الذي حاول القصيبي فعله عندما كان في مصر وكان في السابعة عشرة من عمره وذكر بعجالة اتفاقية سايكس بيكو 1916 التي تم توقيعها سراً في القاهرة بغرض تقسيم دول الشرق الأوسط بين النفوذين البريطاني والفرنسي.
واستطاع القصيبي بمهاراته الكتابية أن يعرض بسهولة، ووضوح العديد من نظريات وآراء سيجموند فرويد النفسية على لسان شخصية (يعقوب) وأستاذه صبحي، فمثلاً يقول: (إن الجنس هو القوة الأساسية التي تسير الإنسان)، واكتشاف فرويد للعقل الباطن وتلك الدوافع والحوافز الفعلية التي تحكم السلوك، والتي لا يعرف العقل الظاهر عنها شيئاً، وارتباط معظم القوى التي تتحكم بالعقل الباطن بالجنس والطفولة والرضاعة.
وتطرق الكاتب للحديث عن بعض المذاهب والأحزاب السياسية كحزب البعث ومؤسسة ميشيل عفلق وكيف كانت أساليبه واجتماعاته، والشيوعية، ومؤسسها كارل ماركس وموقف بعض الشخصيات بين مؤيد لها ومعارض، وذكر لذلك لينين الذي بفضل جهاده وكفاحه حوَّل نظرية ماركس الشيوعية إلى واقع عملي، وأنشأ دولة الاتحاد السوفيتي، وصُنف في بعض التراجم كواحد من أعظم الشخصيات البشرية التي عرفها التاريخ.
ودخل الكاتب بالقارئ إلى العديد من مجالس الأدباء المصريين المشهورين كصالون العقاد ووصف حاله بين زواره، ومعجبيه وسأله عن التناقض بين الإيمان بالقومية العربية والإيمان بالإسلام فأجابه: (التناقض الوحيد هو بين العبودية والحرية، بين الاستبداد والعدالة، بين الديكتاتورية والديمقراطية، أما الشعارات فهي مجرد شعارات لا تودي ولا تجيب).
كما زار مقهى نجيب محفوظ وسأله عن كيفية كتابته للرواية وأخبره أنه قد يمضي الساعات الطوال دون أن يكتب حرفاً، وقد يمضي في كتابة رواية واحدة قرابة الخمس سنوات، والتقى بطه حسين وسأله عن أقرب أنواع الأدب إلى قلبه فأجاب: (الشعر، لكن حاله معي كحاله مع الخليل بن أحمد (يأباني جيده وآبى رديئه.. ولهذا طلّقته).
وبيَّن للقارئ مذهب الوجودية الذي وضعه جان بول سارتر، حيث يقول: (الوجودية هي الحرية المسؤولة، أو المسؤولة الحرة، الوجودية تعني أن تقف في مواجهة الوجود وتتخذ قرارك، الوجودية تعني التحرر من الكليشيهات الموروثة، أو أن تتخذ قدرك بيدك، فمثلاً حينما تفكر كما يفكر الآخرون وتلبس ما يلبسه الآخرون فأنت لست حراً، ولست وجودياً)، وضرب القصيبي مثلاً على الوجودية من خلال أبو نواس الذي تمرَّد على القيم الإنسانية في مجتمعه، والمعري أيضاً الذي صرخ بإلحاده:
أفيقوا.. أفيقوا.. يا غواة!.. فإنما
دياناتكم مكر من القدماء
وواجه المؤمنين جميعاً وهو ضرير بموقفه المنفرد.
وأخيرا أقول إن (شقة الحرية) تُشكِّل في ذهن القارئ طبيعة الحياة في مصر ذلك الزمان وكيف كانت بسيطة وجميلة رغم تعدد الأحزاب السياسية والفكرية، ووضع المعلومة أياً كانت من أحداث وأسماء وتواريخ في قالب جميل وسط الرواية أو عموم الأدب العربي هو ما نحتاجه، فيخرج القارئ بعدما ينتهي من قراءته بالعديد من المعلومات والوقائع التاريخية فيضيف عمراً إلى عمره، وهذا بالطبع ليس غريباً على القصيبي، الذي أشار في العديد من أعماله منها مسرحية (هما) إلى العديد من الكُتَّاب والكتب والمعلومات حتى قالت عنه مجلة الكويت: (وتحتشد المعلومات والمعارف على نحو يحوِّلها وثائقية..).. وهذا في رأيي أجمل بكثير من الرواية الصماء التي اقتصرت على صراعها وخلت من الواقع، لذا أجد أن النوع الآخر لا يدوم طويلاً، بل قد يموت قبل أن يُولد.
رائد بن عبد العزيز الحرقان
raed5@hotmail.com