Culture Magazine Monday  22/01/2007 G Issue 183
فضاءات
الأثنين 3 ,محرم 1428   العدد  183
 

حصار الثلج.. حصار الصحراء
تخليق اللغة.. ولغة الإبداع
جارتي مَدّتْ من الشرفَةِ حبلاً من نَغَمْعبد الله الماجد

 

 

(1)

وجه حبيبي خيمةٌ من نور

(صلاح عبد الصبور)

ينحت المثّال تمثاله من أشد الصخور صلابة، لأنها الأقدر على الاحتفاظ بقسمات العمل الفني، وإبراز التكوين وملامحه الحادة. وفي الإبداع الفني المكتوب، الصخور هي (اللغة) المادة الخام، ينحت المبدع منها عمله الفني، وتصنع اللغة أثناء إعادة تخليقها روح العمل الفني وقوامه (الشكل) في عملية كيمائية معقدة، كالملح في البيضة، تتخلق عليه غلالة البياض، أو كالمحارة كلما كانت مكتملة، تصدّفت عليها الصَدَفة في إحكام صلب.

في مجموعته القصصية (حصار الثلج) يَنحت (عبد الله الناصر) بالقلم، ويعيد تخليق اللغة، متجاوزًا بذلك مقولة (الرسم بالكلمات) إلى ما هو أعمق من ذلك، لأنه ليس وصافًا يصف ما يتخيله، أو يعيد وصف الواقع، بل قام بتشييد معمل كيمائي للغة، أخذ يمزج بين انفعالاته، وخلجاته النفسية بالحدث، وموروثاته اللغوية التي تشكل معجمه الخاص، فنتج عن هذا التخليق الكيمائي، ما أدعوه (تخليق اللغة الموحية) التي هي لغة الإبداع المطلقة، التي تنأى بنفسها بعيدًا عن النثر المباشر، فتتسامى لتصبح لغة الفن، كما هي في النحت على الصخور، ولغة الفرشاة على المحيط.

وحتى لا يظل هذا التنظير النقدي مجرد نظرية، سوف نبرهن على ذلك تطبيقيًا. ففي أولى قصص هذه المجموعة، قصة (أسراب الحمام) وهي قصة جميلة عذبة، شاعرية في مغزاها، قصة زوجة لديها مباهج الحياة، سيدة في قصرها، لكنها تشعر بأنها سجينة، عواطفها مسجونة ومكبوتة، تتذكر أيام صباها حينما غرست مع حلمها (العَلَم) فوق سطح البيت، ليهدي أسراب الحمام حتى تؤوب إلى أعشاشها، وحينما يستبد بها الضجر، من كلفة حياتها المزيفة، تتمنى أن تكون حمامة ترفرف بجناحيها في المدى الطلق، وتؤوب إلى ذلك العَلَم الذي لا يزال يخفق، في الأفق البعيد كقلب في الريح، أو كجناح عصفور بلله القطر. وهذه القصة تكشف الستار عن عِلة اجتماعية، لا يزال المجتمع يعاني منها، حيث لا تزال مقادير زواج البنات في بعض الأسر، معلقة بأمور مغايرة لمفهوم التزاوج في عالم الحمام، حيث لا يتآلف في هذا الكائن الرقيق، إلا اثنان اختار بعضهما بمحض غريزة نادرة، وإذا ما ألف أحدهما الآخر، فلا يمكن أن يتآلف مع بديل آخر. وهكذا، فإن المزاوجة بين رمزي الزوجة والحمام تمنح المعنى عمقًا وبُعدًا آخر.

الظاهرة اللغوية، التي اكتمل تخليقها في معمل الكاتب، هي ظاهرة توليد اللغة من المعنى، فتمنح الخيال قوامه، وتخلق له كيانًا حيًا، باكتمال ملامح الصور التي أراد الكاتب أن يرسمها. فمثلاً قوله:

1) (قالت ونمل الضجر يأكل قلبها) تعبير شاعري وصورة موحية. ومن ذلك قوله في هذه القصة:

2) (ابتسمت على بخار الغيظ في داخلها، واكتفت بهز رأسها، حيث تطاير شَعرُها كمروحة من ظلام ثم استقر على كتفيها).

3) (بصرها عاريًا معلقًا في الأفق).

نحن هنا بإزاء نص شعري، إذ ما التقطناه مجزوءًا هكذا، وحللناه بمنطق تحليل الشعر، لوجدنا أننا أمام تعبير شعري مكثف، تحمل صوره مكونات النمو والتخيل والإيحاء، لكنه يبوح بما خلف تكثيف الصورة. في المثال الثاني هنا إنسان يموج بالحنق والغيظ الذي يُشبهه الكاتب بالغليان الذي ينبعث منه أثناء ذلك البخار، والشعر الأسود وكأنه مروحة، وفي المثال الثالث: البصر هنا يصبح كائنًا يتحرك. وفي النموذج الأول: الضجر، هذه الحالة النفسية يتحول إلى كائن يشبه النمل الذي ينخر في القلب، فكلما استكان دب النمل الدؤوب والبطيء في إشعال حالة الضجر. إن أي محاولة لتشريح هذه النماذج الشعرية تفسد هالة البكارة والدهشة فيها، وإذا ما فعلنا ذلك، فإننا في واقع الأمر، كمن يُشّرح فراشة بسكين البصل، كما يقول أستاذنا الراحل (محمد مندور).

ولكن لنتخيل أن الكاتب كتب نماذجه تلك على هذا النحو:

1) قالت وهي تشعر بالضجر يزعجها ويؤلمها.

2) ابتسمت، وهي تحاول كتم غيظها، واكتفت بهز رأسها وتطاير شعرها الأسود وانتثر على كتفيها.

3) ظل بصرها شاردًا في اتجاه واحد. فأي الأساليب أكثر تأثيرًا في المتلتقي، وأيهما يرقى إلى سمت التعبير الفني الموحي الذي هو صفة الأسلوب الأدبي، ولكي تكتمل هذه الصفة، على القارئ أن يتناول هذه النماذج في ظل السياق العام للعمل القصصي، فالكاتب لا يلبس ثياب الشاعر، ولا هو يتكلف ترصيع عمله الفني ويوشيه بهذه التعبيرات، وإنما يأتي كل ذلك عبر سياق غير متنافر مع تهدج النص وترسله، وإلا لأصبح الكاتب كمن يرصع ثوبًا خَلِق بالجواهر على حد تعبير شيخنا الآمدي غفر اللّه له ورحمه، جزاء ما تعلمنا منه.

ذكرني هذا على نحو آخر، بما ذكره الراحل (محمد فريد أبو حديد) حينما كان يترجم (مكبث) مسرحية شكسبير المعروفة، يقول أبو حديد: (لغة شكسبير تتميز في ذاتها بأن الشاعر يستخدم فيها ما يشاء من الألفاظ لما يشاء من المعاني، ويركب عباراته غير متقيد بمثال لغوي مقرر. فهو ينحت الأوصاف نحتًا لا يكاد يوجد له مثيل حتى في اللغة الإنجليزية).

ويسوق أبو حديد مثالاً لذلك، يقول فيه شكسبير، بما يمكن ترجمته نثرًا مجردًا عن لغة شكسبير الخاصة، في قوله على لسان (مكبث) لزوجته قبل أن يُقدم على قتل منافسه (بنكو) ما معناه: (تمهلي قليلاً، فإنني سأقدِم على عمل خطير يدوي صداه قبل حلول هذا المساء) ولكن أبا حديد يُعبر عن ذلك بالطريقة الشكسبيرية في نحت الأوصاف على هذا النحو:

(فمن قبل خروج الخفاش في طيرانه،

تحت ظل الرواق في إيوانه،

قبل أن تصدح الجعارين طوعًا.

لمناداة هيكت السوداء

بجناحين يشبها حطام الشقف

تُعْلى طنينها وسنانا،

عازفات مثل النواقيس في الليل

عزيفًا متثائبًا نعسانًا،

قبل هذا، يكون قد تم فعل ذو دويّ مروّع،)

نحن هنا بإزاء نص شعري مكثف الرؤى والمعاني، يُعبر عن لغة (شكسبير) الخاصة به التي ينحت من خلالها أوصافها وتراكيبها، وهي صور غامضة، بذل مترجمها الجهد في الاحتيال على التعبير، حتى تتهيأ له عبارة عربية سليمة، مع المحافظة على المعنى الأصلي كما يقول لكنها مثال حي على توليد المعاني وتخليق اللغة. وسوف تتضح القيمة الفنية لهذا النص الشكسبيري، إذا ما حاولنا إلقاء الضوء عليه لإزالة غموضه الشفاف.

فالحدث الخطير هنا دون أن يُصرح به الشاعر بلغة مباشرة تقريرية، سيقع في المساء، ويشير إلى ذلك بطيران الخفاش تحت الأروقة في القصر، ومعروف أن الخفاش يطير مع حلول الليل، ويسمع صوت الجعارين استجابةً لنداء (هيكت) أو (هيكات) ربة السحر والشر، (محمولة على أجنحة تشبه قطع الخزف المحطم، والنواقيس تدق دقة المساء في بطء يحمل على التثاؤب، إشارة حسية إلى قدوم الليل. كل هذه الصور تضفي على الحدث هالته ورعبه، عبر لغة مُخلقة، وصور مبتكرة، ومعانٍ مُولدّة. هذه صورة إبداعية، فإذا ما طرحنا سؤالاً في مسألة (الإبداع واللغة): كيف يُبدع العقل اللغة، كان جوابه في هذا النص المأخوذ عن (شكسبير). وعلى هذا فإنه يمكن النظر إلى اللغة، باعتبارها وعاءً للفكر، ويمكن تشبيهها بالرحم، أثناء عملية الخلق، يتمدد ويتسع للجنين، واللغة أثناء عملية الخلق الإبداعي تتجدد وتنشر شرانقها لتستوعب تلك التداعيات من المعاني، في عملية أشبه ما تكون بالعملية الكيمائية، هي كيمياء الإبداع. وهو ما نلاحظه دون عناء في معظم قصص هذه المجموعة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد
مواقع الجزيرة

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة