أحسب أنني واحد من الذين يصعقون عندما يصدم بقرم من القروم في مجاله فيخطئ فيه ذلك الخطأ الذي يجر عليه التبعة تترا ثم هو يكون في العين ليس بذاك، كذلك هو الظن كله لا بعضه فيما يقع فيه عالم أو محقق أو مسؤول تحرير في ذلك الخطأ ثم يحرره جداً ويسير عليه ظاناً كل الظن أنه هو الصواب العين بالعلم، ويكرر الخطأ وينصره ويدفع قول القائلين حوله أنه خطأ.
وليس بخافٍ.. جزماً.. جواز الخطأ على الثقة، فالثقة حتى في علم وروايته ودرايته قد يخطئ فيزل زلة تهوي بها معه أمم عبر القرون، لكن فيصل القول هنا كما هو فيصله هناك أن الله جلَّ وعلا لا يجعل الأمة في ضلال أبد الدهر لكنه سبحانه يصطفي الخيار ليتم أمر بيان الصحيح من الضعيف من الموضوع مما لا أصل له من المنكر من الشاذ.. ألخ.. حتى يستقيم العلم استقامته كما كان خلال القرون: الأول والثاني والثالث كما هو مدون في أسفار خالدة دلالة حفظها بنجابتها وسؤددها وتجديدها على تجرم العهود،
وما حال: (المحدث الفاصل) و(سير أعلام النبلاء) و(أسد الغابة) و(الاستيعاب) و(الكامل) لإبن الأثير دون: (المبرد) و(تهذيب الكمال) و(الطبقات الكبرى) (الكبرى) و(مختصر تاريخ دمشق) و(الإعلام بالتوبيخ) و(يتيمة الدهر) و(رفع الملام) و(الصحاح) و(المسانيد) و(المعاجم الحديثة)، و(لسان العرب) و(ميزان الاعتدال) و(لسان الميزان) و(الرحلة في طلب الحديث) و(أدب الكاتب) و(الطرق الحكيمة) و(الحماسة) و(عيون الأخبار) و(فتح الباري) و(عمدة القارئ)، و(الروض الأنف) و(منهاج السنة) و(معجزة فوق الرمال).
ما حال هذه الأسفار الخالدة الجياد إلا لسبقها سواها في حبائك التجديد ورسم الدوارس الباقية ليحتذي شاهد بغائب وساهٍ بنابه ولاهٍ بواعٍ ومقصرٍ بمشمرٍ جادٍ سيد مركز، ناهيك بالأروقة من ذوي السداد على وابل القتاد ثم هو: لا يريم، ولهذا ومع انعدام الشعور بالمسؤولية تجشم كثير من القوم الصعود ثم هم يحرنون القعود يريدون الحق في صعودهم فإذا لم يصعدوا.. أصلاً.. إنما هم في حال مكوث مكانهم لا يبرحونه وذلك إنما جرهم إلى هذه ظنهم أنهم: مصيبون فالحون ومن ثم يجدون من يطبل لهم (والقوم) سواء لا يدركون أنهم في وادٍ والحق الذي ينشدون في وادٍ آخر لم يدركوه، وأنى لهم بهذا وهم ليسوا بذويه ولا يعرفون، وإنما اللوم كله أقول كل اللوم ينصب على عاقل أو هو ينصب على حر كريم أخطأ ثم ترك خطأه يسير كأنه صواب حياءً أو تردداً في نفسه أن يدرك البعض أنه زل، وليس عيباً زلل ما أو خطأ ما اجتهد فيه صاحبه فزل لأنه ليس من أهله كحال، مرزوق بن تنباك(1) والغذامي(2) مثلاً.
ولو ذهبت تنظر فيما صور خلال خمسين عاماً فرطت لوجدت أسفاراً هشة سردية إنشائية تحمل عناوين هائلة ضخمة وليس ذاك إلا الورم يزول عند طرقه وضربه والقراءة عليه ليذهب: مسه ودسه ويبيد قسه (3) وعسه (4) ورفسه (5) ولولا العناد والمكابرة لعادت الأمة سيدة في تأصيلها والبناء فيها شامخاً لا تضعضعه العوادي على مر الأيام.
وإني لجالب بين يدي هذه المقدمة كلاماً لأخينا وصديقنا الغالي محمود شاكر (6) رحمه الله تعالى أجلبه بين يدي هذا القرن من هذا القرن من هذا الزمان المعضل ليتبين حقيقة أهلكت أناساً عموا وصموا بسبب ركونهم على ما ليس أصلاً (7) ولا يكون، ويتضح أن كثيراً من العلماء والأدباء والنقاد يحتاجون إلى إعادة التصنيف من جديد لخراب ما اعتمدوا عليه في أمر أو أمور ظنوها تجديداً وحداثةً وإبداعاً، وإنما تلك الأماني والظن والظن لا يغني من الحق شيئاً.
يقول محمود شاكر في محاضرة له في: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض (قضية عمر الشعر الجاهلي وأوليته، فإني رأيت أكثر الباحثين يؤولون في الحديث عنها قول أبي عثمان الجاحظ المولود سنة: (150هـ) والمتوفى سنة: (255هـ) لأنه أقدم ما قيل في هذه القضية، ولثقة الناس بعقله ونظره، فلذلك أرى أن أثبت هنا مقالته كلها التي تتعلق بالشعر، في ظلال ما أفاض فيه من ذكر فضل الكتابة والكتاب وهذا نص ما قاله: (فكل أمة تعتمد في استيفاء مآثرها وتحصين مناقبها على ضرب من الضروب وشكل من الأشكال، وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفى)، إلى أن قال: (وأما الشعر فحديث الميلاد صغير السن أول من نهج سبيله وسهل الطريق إليه: امرؤ القيس ومهلهل بن ربيعة وكتب أرسطاليس ومعلمة أفلاطون) إلى قوله: (ويدل على حداثة الشعر قول امرئ القيس بن حجر:
إن بني عوف ابتنوا حسباً
ضيعه الدخللون إذ غدروا
أدوا إلى جارهم ضغارته
ولم يضع بالمغيب من نصروا
(لم يفعلوا فعل آل حنظلة
إنهم جير بئس ما ائتمروا
لا حميري وفي ولا عدس
ولا أستُ يمر يحلها التغر
لكن عوير وفي بذمته
لا قصر عابه ولا عور
فانظر كم عمر زرارة؟ وكم كان بين مورت زرارة ومولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له إلى أن جاد الله تعالى بالإسلام خمسين ومئة سنة، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمئتا عام.
وهذه الأبيات التي استدل بها أبو عثمان يقولهاامرؤ القيس في شأن مقتل (أبيه حجر) لما قتلته بنو أسد إلخ...).
ثم يعلق محمود شاكر تعليقاً آخر (وظني، وهو ظاهر الصواب إن شاء الله تعالى: (أن أسلوب الجاحظ في استظهاره هو هذا: كان موت زرارة بن عدس قبيل مولد البني صلى الله عليه وسلم فهذه نحو من خمس وأربعين سنة إلى أن بعث الله رسوله بالإسلام على رأس الأربعين ثم يستظهر محمود شاكر بعد ذلك قائلاً: (وقد كنت شديد العجب من أمر أبي عثمان أن أمرأ القيس هو أول من نهج سبيل الشعر وسهل طريقه؟ وكان بدا لي قديماً أن أبا عثمان قد أخذ هذا من الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده رقم: (7127) عن هشيم، حدثنا أبو الجهيم الواسطي، عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى الناس) وهذا الخبر نفسه رواه البخاري في الكنى قال: مسدد حدثنا هشيم، حدثنا شيخ يكنى أبا جهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: (صاحب لواء الشعراء إلى النار امرؤ القيس) لأنه أول من أحكم الشعر وأبو جهم هذا قال فيه ابن عدي شيخ مجهول لا يعرف له اسم وخبره منكر، ولا أعرف له غيره) إلخ..
قال ابن لحيدان: وجهالة أبي جهم يوجب قطعاً رد هذا الأثر إذ لم يصح ومن المعلوم أن صحة المتن إنما تكون بصحة السند قولاً واحداً. وقد وجدت كثيراً ممن ينسبون إلى العلم يوردون هذا الأثر دون بيان لدرجته.
وأخلص من هذا القول إلى ما يلي:
1 أن أمرأ القيس ليس هو أول من قال: الشعر.
2 حقيقة ثبوت الشعر الجاهلي.
3 سقوط دعوى مرجيلوث بأن الشعر الجاهلي منحول، التي أخذها منه: طه حسين.
4 خلل النقد الأدبي لاعتماده على الآثار الضعيفة.
5 جعل الجاحظ غمده في الأصول وهذا خطأ.
6 فقدان (الموهبة النقدية) إنما الموجود اليوم هو: دارس للأدب لا: ناقد للأدب.
7 تعالم الكثير بدعوى أن العلم مشاع.
8 جرأة الدراسات النقدية وإيراد بعضهم آثاراً متهالكة.
9 خلل التأصيل في الدراسات النقدية لعدم وجود (الموهبة).
10 وجود الخلل في البحوث والدراسات العلمية الشرعية لوجود:
1 العجلة.
2 الخلط بين الصحيح والضعيف.
3 النقل المجرد وكثرة إطالة الهوامش.
4 الإيعاز للغير بالبحث ثم إضافة الاسم هكذا دون جهد للعالم.
11 فقدان الاجتهاد الحق إنما هي آراء مبتورة قد يكون بعضها منقولاً.
12 الجرأة في الآراء دون علم صحيح بالنص ودلالته وما يدور حوله.
13 ضعف القراءة أو انعدامها اليوم اللهم إلا اللمم.
14 الخلط بين: الرأي والفكر والاجتهاد لعدم ضابط مسؤول.
15 العجلة في الحكم دون نظر طويل وإطالة نفس وجد مراجعة واستنتاج.
16 الجزم والقطع بصحة الرأي الواحد.
17 جعل التاريخ وكتب الأدب مصدراً مهماً للآثار وهذه مصيبة وطامة في آن وكم كنت أود الإطالة، في مثل هذا للحاجة الداعية مع كثرة التأليف والجزم والقطع والتسيد والتفرد لكن لعل ما بنيته هنا شافٍ ليكون محط نظر جديد للشعور بالمسؤولية العلمية الأخلاقية والأمانة اللازمة تجاه العلم والأدب.
(الهوامش)
1) حيث زل في كتابه: الوأد عند العرب إذ لم يحرره جيداً ولم يؤصل مسألته فجاء سرداً وخلطاً خليطاً.
2) حيث تعجل فزل في كتابه عن (المرأة واللغة) وكذا كتابه (نقد الثقافة) فنقل دون إشارة إلى: المنقول منه.
3) القس زيادة الأكل.
4) السطو.
5) العناد والمكابرة المقصودة.
6) محمود شاكر/ محقق وباحث جدير بالموهبة وطول النفس، وهو غير محمود شاكر باحث سوري له جهود جيدة في البلدان والجغرافيا.
رأيته في الرياض عام 9192هـ فيما كنت طالباً في الجامعة. سنة 2 جامعة.
7) أحاديث كثيرة ضعيفة جداً منها:
1 (أدبني ربي فأحسن تأديبي).
2 (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)
3 (خذوا شطر دينكم من هذه الحميراء)
4 (الأقربون أولى بالمعروف).
5 (اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد).
6 (اطلبوا العلم ولو في الصين).