حاولت في هذا البحث أن أقدم صورة موجزة، عن نقد النقد، في آلياته، ورؤاه القديمة والحديثة، حيث أصبح النقد نصاً يستحق الدراسة والتحليل، كباقي النصوص، ولم يعد النقد طرفا في معركة، ليس فيها منتصر ولا مهزوم عندما تحتكم إلى الحقيقة، والحقيقة في الفن عملة نادرة لا يستطيع الحصول عليها إلا من أوتي حظاً وعلماً يستطيع من خلاله التعامل مع النصوص، الإبداعية والنقدية، والنقد في هذه المرحلة التاريخية يختلف عنه في المراحل السابقة من عمر النقد، فقد أصبح إبداعاً على إبداع، ونقداً على نقد، ونصاً على نص، فلم يعد سلاحا في يد صياد يقتنص الفرصة للانقضاض على فريسته عندما تواتيه الفرصة السانحة، بل هو الأب الروحي للنص الإبداعي والشريك الفاعل في العملية الفنية، يتعامل من حيث التوجيه (التشاوري) على طاولة التفاوض فيما يمكن أن يقوم النص، ثم يقيمه على أسس علمية فنية تقبل الأخذ والعطاء، بعيداً عن الإقصاء والإلغاء والاحتقار، وكل ما يمكن أن يمس بالنص وصاحبه، بحيث يتعامل مع النص من كل الجوانب، للخروج بمحصلة كاملة، من الرديء إلى الممتاز، بآليات فنية، عرضنا لبعض منها في هذه الدراسة، منها: ظاهر اللغة وباطنها، والتفسيرية، والانطباعية، والفلسفية، والإحصائية، والشعرية، والبلاغية واللغوية.. ونظراً لضيق الوقت ومساحة البحث اختصرت هذه الآليات، ومعها الرؤى التي توافق أو تعارض الآلية نفسها، فقد تكون الآلية صالحة لنص ما، ومخالفة لنص آخر، من وجهة نظر ناقد النقد، ومن هنا تتضح معالم النص الأول من خلال القراءة الثانية.
حاولت في هذه الدراسة المختصرة أن أتناول هذا الموضوع من بداية ظهوره، على يد الناقد الأول للنقد (ابن قتيبة الدينوري) فهو من وجهة نظري أول من تناول هذا الموضوع، في زمن كان النقاد يخافون الاقتراب منه، والفضل يعود إلى النقاد الذين سبقوه في هذا الميدان الصعب، ومهدوا له الطريق: الجاحظ وابن سلام الجمحي، والنقاد اللغويين، المعتمدين على حركة اللغة الشعرية، الذين أثاروا فيه هذه الرغبة، ومهما أخذ عليه من النقد في التراجع عن الكثير من آرائه، إلا أن له حسنة السبق، من جهة، وفتح الباب وتشجيع الدارسين من بعده من جهة أخرى، مثل ابن طباطبا وقدامة بن جعفر وابن المعتز والقاضي الجرجاني، والشعراء المحدثين الذين أمدوه بهذه المادة، أمثال: بشار بن برد وأبي نواس، والبحتري وأبي تمام ومروان بن أبي حفصة، وغيرهم، وقد استخدم هؤلاء النقاد في نقدمهم للنقد، تقييماً وتصحيحاً وملاحظة المنهج عدداً من الآليات، أضاف إليها الدارسون في العصر الحديث الكثير من الآليات الغربية التي ذكرنا بعضا منها، وما يزال بعض القديم مرتبطاً باللغة النقدية ساري المفعول في النقد الأدبي، مع اختلاف في الرؤى نتيجة للآلية نفسها، فالبناء على الآلية والرؤية نتيجة لها، ولعل تطبيقي على النصوص العربية كان على جزء منها يعوض عن الكل، في الأدب السعودي، كجزء من الأدب العربي بصفة عامة قد جلا شيئا من غموض هذا المنهج المهم في الدراسات العربية المتعددة، التي تحتاج إلى دراسات معمقة في هذا المجال، فقد كثر النقد اسماً، وقل نوعاً في الصحافة العربية؛ لاستسهال الكثير لهذه العملية الحيوية في نشاط التأليف والنشر السريع، وهذا المنهج يحتاج إلى قراءة ثانية، وربما ثالثة، لتعديل ما فيه من الخلل العلمي والمنهجي والفني، ونجد أن نقد النقد أقرب للعلمية من النقد نفسه، ولذلك لم يزل هذا العلم في بداياته في العالم العربي، للأسباب التالية:
1 عدم وجود متخصص في هذا المجال.
2 عدم وضوح الآليات النقدية، من تأثير المدارس العلمية، فالآلية التي يقوم عليها نقد نص ما تنحرف عن مسارها إلى آلية أخرى (لغوية أو تاريخية) على سبيل المثال.
3 صعوبة مجابهة الدارسين، وتنوع مناهجهم، بين شرقية وغربية، وحديثة وتقليدية.
4 ما تزال الدراسات الإقليمية هي المسيطر الأقوى حضوراً.
5 لم تتوازَ الآليات مع الرؤى الفردية في هذه الدراسات.
أرجو أن أكون وفقت في معالجة بعض هذه القضايا، أو أنني حاولت، والله الموفق.