عاشت أكثر الدول العربية تحت سيطرة الاستعمار فترة طويلة، لكن السحب لم تلبث أن انجلت حيث اتضحت الرؤية للأدباء والمفكرين في هذا الوطن الكبير وتسلطت الأقلام على الواقع المرير الذي خاضته أمتنا في طريقها إلى الحرية والاستقلال، واتجه الرواة إلى تصوير رحلة الكفاح والنضال للشخصية العربية منذ أن كانت أمورها في يد الأجنبي حتى صارت في يد أبناء الوطن، لكن أمتنا العربية لم تسلم من كل أوجاعها فقد بقيت بعض الآلام المزمنة في جسدها كمشكلة فلسطين وقضية الصحراء المغربية، ونضال الشعب الجزائري من أجل استقلاله، وغير ذلك من الهموم التي جسدتها الرواية الحديثة في العديد من البلدان، مع أن قيام بعض الثورات العربية ونهوض أكثرها بتحمل أعباء الحكم في بلدانها لم يخل من بعض الممارسات التي وجد فيها الأدباء مادة غزيرة للأعمال الروائية، وتعددت المضامين التي أصبحت قاسماً مشتركاً بين الأدباء في بعض البلدان كالدعوة إلى الحرية والعلم، والحياة الآمنة، وحق المواطن في العمل والكتابة والسفر وغيرها.
إن مفهوم الرواية السياسية أوسع بكثير من المضمون الضيق الذي حصرها فيه البعض، وجعلها تقتصر على خدمة السياسة أو نقدها، وتصوير الخلاف بين الأنظمة السياسية ورعاياها في الداخل أو الخارج فهي فضلاً عن ذلك تعالج من خلال الالتزام الفكري الذي يأخذ به الرواة القضايا الوطنية التي تمر بها الأمة أو الدولة الواحدة مثل رواية (الحرب في بر مصر) ليوسف القعيد و(الكرنك) لنجيب محفوظ و(الوشم) لعبد الرحمن الربيعي، حتى لو نهض بهذا الدور بعض الرجال وليس كل الأمة أو أكثرها مثل (رجال في الشمس) لغسان كنفاني و(المصابيح الزرق) لحنا مينه وغيرها.
ولهذا كانت الرواية التي تعبر عن مشكلات الإنسان وصراعاته المختلفة ذات تأثير عظيم في الحياة، وصاحبة دور إيجابي فيها.. وإذا كان الرواة (السياسيون) يتخذون أبطالهم من المجتمع فإن ذلك يؤكد بصورة أو بأخرى ارتباط الحس الاجتماعي بالوضع السياسي، لأن كل نظام يحاول دائماً أن يصبغ البيئة باللون الذي يرتاح له ويؤمن بتأثيره وفعاليته، وفي ضوء الرؤية التي ينطلق منها ويعبر عنها.
ويرى بعض الرواة ( المميزين) أن تنطلق أعمالهم من دائرة أوسع، ويفضلون لرواياتهم أن تشمل الساحة العربية كلها إن لم تتجاوزها إلى خارج حدود الوطن الكبير، حيث يعطون أعمالهم الصبغة العالمية الشاملة كتلك التي يتخذ منها الأدب المقارن أشكاله ونمازجه.
إن قضية فلسطين تأتي في مقدمة المضامين التي عالجتها الرواية السياسية العربية والتي تمثل مأساتها الهموم الأولى للروائيين العرب في السنوات الخمسين الماضية ولهذا يقول روجر ألن (إذا تذكرنا حقيقة أن مأساة الشعب الفلسطيني والمجابهة مع إسرائيل كانتا تمثلان واقعاً مراً بالنسبة للعرب خلال هذه الفترة فقد لا نستغرب حين نعلم أن هذا الموضوع هو أحد المواضيع الرئيسية للرواة أثناء الفترة ذاتها)(1).
ولا شك أن الرواية السعودية شاركت في التعبير عن هذه القضية بعدة أنماط من التعبير، وقد عرض عبد الله سعيد جمعان لحرب رمضان 1393هـ في روايته (القصاص) عندما تحدث عن استشهاد أحد شخوصها الرئيسيين على الجبهة المصرية، وتحدث عبد العزيز المشري عن جانب آخر من القضية عند عرضه لأحد الشخوص في روايته (الوسمية) وهو أبوصالح الذي سافر إلى فلسطين وشاهد أرضها التي ضاعت من العرب، وقد جعل المشري فصلاً من الرواية عن (مصلح الدوافير) وهو من فلسطين.
أما الرواية المتميزة التي عبرت تعبيراً صادقاً عن قضية العرب الكبرى مع إسرائيل وجسدتها تجسيداً حياً فهي (مشرد بلا خطيئة) للدكتور محمد عبده يماني: صدرت (مشرد بلا خطيئة) مع رواية ثانية هي (اليد السفلى) في كتاب واحد، وهي رواية قومية تاريخية ذات وجهة سياسية وقد تحدث الدكتور يماني فقال: (استوحيتها من واقع الألم التاريخي الذي ليس له مثيل ذاك الذي عاناه ويعانيه إخواننا الفلسطينيون، أصحاب فلسطين وأهلها، ومن التطورات التي طرأت على القضية الفلسطينية منذ أن بدأت أقسى جريمة للتهجير تناولت شعباً بأكمله إلى أن وجد هذا الشعب نفسه مرغماً على ان يحمل البندقية، ويدافع عن قضيته بنفسه، على هذا النحو الذي نعرفه ونعايشه).
لقد كان المنحنى التاريخي الذي اتكأ عليه المؤلف في هذه الرواية مقروناً بقضية فلسطين تلك القضية التي شغلت العالم كله حتى صار المؤلف يتساءل في أحداث الرواية عما قامت به الأمم المتحدة لحل هذه القضية، وأين ميثاقها الذي انتهك قبل أن يجف مداده، وأين هي حقوق الإنسان؟ وحق تقرير المصير، وحق الأمم والشعوب في التمتع بالحرية وأين الشعب الفلسطيني من هذه الحقوق؟ على أن الرواية لا تقتصر على التاريخ والسياسة بل تتعدد أصواتها وتشمل بهمومها الأمة العربية كلها.
القضية الفلسطينية عند الكاتب هي قضية فكرية يعرض لها بقلم رجل الإعلام الذي يجمع بين الحوادث التاريخية الحقيقية والرؤية الخيالية، ويمزج بينهما في قالب يعبر عن جوانب الأزمة السياسية لهذا الشعب المشرد بلا خطيئة.
لقد صور (يماني) المأساة الفلسطينية تصويراً كاملاً، حيث جعل كل موقف من المواقف شاهداً على هول الكارثة، خاصة أن المؤلف قد مارس الكتابة الصحفية وتحمس للقضية واطلع على كثير من خباياها المأساوية.
إن الجوانب التي تتميز بها هذه الرواية كثيرة وإن عوامل تفوقها ونجاحها متعددة وفضلاً عن ذلك فهي الرواية السعودية الوحيدة على حسب معرفتي التي عرضت لمأساة الشعب الفلسطيني ودارت أحداثها حول الصراع العربي الإسرائيلي في السنوات الخمسين الماضية.
(1) روجر ألن الرواية العربية ترجمة حصة المنيف ص65