هذه قراءة في رواية (باب الساحة) للكاتبة الفلسطينية سحر خليفة، والتي تقف في صدارة كتّاب وكاتبات الرواية العربية. ويلي هذه القراءة مثلها في الرواية الأولى للكاتبة الفلسطينية إيمان بصير، وهي رواية (عشب الأرصفة). ولئن بدا في اجتماع القراءتين هنا ظلم ما لإيمان بصير، إذ تُقَارَنُ روايتها الأولى برواية كاتبة مخضرمة ومتميزة، فما هو أهم أن يضيء اجتماعُ القراءتين مساهمةَ الكاتبة الفلسطينية من غير كاتبات الشتات في الرواية، وكذلك أن يضيء هذا (الاجتماع) ما يجمع وما يفرّق بين الأجيال.
سحر خليفة
(باب الساحة)
في عشرة فصول معنونة جاءت رواية (باب الساحة). وفيما بدا منذ الفصل الأول أن الست زكية (التي تَعَنْوَنَ هذا الفصل بلقبها: أم الشباب) هي الفاعل الروائي الأساسي، إذا بهذا الفاعل يبدو الملثم حسام، أو الصحفية سمر، أو المعلمة سحاب على الرغم من أن حضور هذه يتمثل بغيابها أو نزهة التي تلح علينا بذكرى خضرة في رواية (عباد الشمس).
لكن هذا الفاعل المعلوم الذي يتعدد لا يلبث أن ينازعه الفاعلية فاعل مجهول ومتعدد أيضا هو: الناس صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، بنقائصهم وفضائلهم وتناقضاتهم، الناس وهم يعيشون الانتفاضة. أتكون الانتفاضة (الفلسطينية الأولى) هي الفاعل الوحيد إذن؟
على ذكرى استقبالات النسوان مما عرفت الست زكية في عهدها مع امرأة أبيها، تنفتح الرواية. ومنذ هذه الفاتحة تسوق الإلماحات الجنسية، وتتباذأ وتعول على العامية في الحوار غالباً وفي المتن أحياناً، ولا تتعفف عن المفردات أو العبارات المعنية بغرض جسدي غذائي أو جنسي، مناكفة التهذيب التدجين أم التحريم؟ الغالب في الكتابة العربية، لا الروائية وحسب.
أم الشباب أم الجميع ومستودع الأسرار، لا تخشى العتمة. تنطلق فيها وهي الداية والممرضة، الحمامة والبومة، تواجه الآخر (الجندي، الإسرائيلي) متذرعة بسرّ الشخصية الشعبية الذي يجعل من مؤمنة وعطوفة، معطاءة وصابرة، ساذجة وخبيرة، وحيدة وبسيطة ومضطهدة، يجعل منها شجاعة في خوفها وخائفة في شجاعتها.
تقول الست زكية محددة ما جدّ للمرأة الفلسطينية بالانتفاضة: بصراحة ما تغير عليها إلا الهم. همها زاد وقلبها انحرق، قولي: الله يكون لها لنسوان معين (ص 20). وتردف مفصّلة:
صارت ترشق حجار وتخلص الولاد وتخبي الشباب وتتظاهر؟ بس همها زاد كتير كتير. همومها القديمة بقيت على حالها وهمومها الجديدة ما بتنعد. حبل وميلاد ونفاس ورضاعة وغسيل وقش ومسح وطبيخ ونفيخ ونكد الجوز وهمّ الولاد، وهمّ الشباب المشردين بين الصخر والوعر وزمهرير الشتاء وشوك البراري وواويات الجبال. (ص 20).
أما سمر (المثقفة) فتخاطب الست زكية وهي تراها في اندفاعها ذاك: (يا خالتي زكية خليك موضوعية). ولسوف نرى مثل سانحة هذا الخطاب تتكرر، وتتواضع أحياناً، وبدلاً من سمر ثمة حسام وسحاب.. إلا أنها تبقى السانحة التي ترسم المسافة ما بين خطابين: الشعبي أو العامي، والمثقف. ولأن للست زكية موضوعيتها الخاصة بها، لذلك تهجس بالسؤال اللائب الجارح: هل ستكون للانتفاضة نهاية؟ ألكل هذا الخوف والقلق والدم النازف نهاية؟(ص 22).
ينطلق السؤال على الرغم من أن الجميع في لجة الانتفاضة. وليس لأحد، أياً كان موقفه وموقعه، أن يلتقط أنفاسه. ولكن الرهق والتخبط وبريق الدولة القادمة والخوف من مستقبل مبهم وعسير، وسوى ذلك من العيش في الانتفاضة، كل ذلك يشرع للسؤال في صدر، وعلى لسان، ولن تكون الست زكية وحدها من لها ذلك الهاجس، بل إن سواها سيصرخ، وبصيغ أوجع، بما هجست.
تلك هي الست زكية. أما جارتها الشابة نزهة فشخصية أخرى، بالغة التعقيد والتوتر والغنى، تضيء في قاع مجتمع الرواية ذلك الركن الأكثر التباساً والأحلك ظلمة والأكبر تناقضاً، وتؤكد إبداع الكاتبة لهذا النمط من الشخصيات الروائية، كما عبرت وإن بدرجة أدنى شخصية خضرة في (عباد الشمس).
تظهر نزهة في نهاية الفصل الأول مستجديةً من الست زكية أن تدخل إلى بيتها. ولكن من يدخل إلى دار التعريص، كما سوف تسمي نزهة بيتها؟ وإذن، فالدار المشبوهة لم تعد كذلك لأنها دار التعريص وحسب، بل بسبب التجسس الذي عوقبت عليه سكينة بالقتل، وتعرضت نزهة للضرب. ولأنها تشك في أن حسام هو من ضربها على الأقل وربما لسبب آخر أو أكثر تستجدي الست زكية، ولا تفلح حتى تتمتم باسم حسام الذي توقف له الرواية الفصل التالي.
إنه آخر العنقود (هو ذا عنوان الفصل الثالث). ينتمي إلى (صنف حساس من البشر يؤمنون، ربما بفضل ظروفهم الخاصة جداً، أنهم مسؤولون عن إحداث تغيير في الظرف العام. لم يكن من سكان المخيمات أو معذبي الأزقة وفقراء القاع أو القمة، بل ابن رجل بدأ حياته متوسطاً وظل متوسطاً في كل شيء). (ص47).
إنه المثقف الذي عرف في الرواية والنقد الأدبي والفكر السياسي والاجتماعي بالبورجوازي الصغير. إنه البطل الروائي بامتياز منذ الستينيات، فكيف هو الآن في زمن الانتفاضة؟
بهذا تنجز الفصول الثلاثة الأولى من الرواية المهاد. وفي نهاية الفصل الثالث تقدح شرارة الفعل الأساسي الذي ستشتغل عليه الرواية: حملة التفتيش، فيما حسام في واحدة من زياراته للست زكية، واللجوء إلى أم الصادق حيث يتكور مقاومون من تنظيمات شتّى.
يرمي السرد بخاطرة لحسام وهو في المخبأ إذ يهجس: (كل التنظيمات في هالخزق! هذا الخليط في هذا الخزق. المنظمة بحالها في هذا الخزق). (ص59).
فكأنما يوجز بكلمات ساخرة الراهن الفلسطيني: المطاردة الإسرائيلية، التعدد أم التشتت؟ الفلسطيني، المخبأ محشراً وموحداً، السبيل العسير والمظلم، وربما المسدود. ولا ننسى تفجره إثر استشهاد سامح، وقبلئذ: هجس الست زكية بنهاية الانتفاضة.
يكرر فعل اللجوء إلى بيت نزهة حلاً تقنياً مألوفاً في الرواية، حيث يطلق الملجأ (المخبأ المصيدة الفخ...) الماضي، وينسج أو يفكك العلاقات، ويولد الصراعات، ويتلفع المناخ بالبوليسية، وتنجز الخطوات نحو الفعل الحاسم النهائي (مثال شهير: في بيتنا رجل).
أما الفصل الأخير (فالبوابة) فيضفر بداية الرواية إلى نهايتها من ذكريات الست زكية في مجلس العزاء الذي أقيم للشهيد في بيت نزهة. لكن الرواية لا تنقفل، إذ ثمة فعل انتفاضي تالٍ. فالشباب عازمون على أن يرفعوا العلم الفلسطيني فوق البوابة التي سدها الإسرائيليون بالجلاميد. والجنود يصطادون شاباً فشاباً. ونزهة التي وصفت فلسطين بالغولة هي التي تقذف زجاجة المولوتوف أخيراً كرمى لأحمد، كما تصرخ، لا كرمى للغولة، فيما النساء بشجاعتهن وحكمتهن المستسرّتين يبدعن الفعل الذي أعجز الشباب (الذكور).
تتعدد الأصوات في رواية سحر خليفة (باب الساحة) وتتمايز في توافقاتها وفي صراعاتها وتحولاتها. ولئن نشز على ندرة بينها صوت السارد، وخاصة في مطلع بعض الفصول، وفي سانحتي حسام وسحاب، فقد ظل التعدد هو السمة الفنية الكبرى، والإنجاز الفني البديع ل(باب الساحة). وبهذه الأصوات، ومنطق الأفعال، يبدو النقد لازمة وعي الذات، كما هو في هذا الشطر من الرواية العربية، مما كتب كتاب فلسطينيون في الداخل وفي الشتات، ومما كتب كتاب عرب، وبخاصة منذ معارك أيلول سبتمبر 1970 وسواء أكان الصراع العربي الإسرائيلي الحركة الوحيدة في الرواية، أم كان حركة من حركات.
إيمان بصير
(عشب الأرصفة)
في القليل من الرواية العربية، مما تمحور حول الطفولة، تغلب السيرية، والعين تَرمح هنا من (بقايا صور) لحنا مينة قبل ثلاثين سنة إلى (رهائن الغيب) لأمين صالح قبل سنة. لكن رواية إيمان بصير (عشب الأرصفة) تبرح هذا السبيل الروائي السيري أو السيري الروائي إلى سبيل الرواية وحسب، وهي ترسم طفولة (الأدهم) في شطرها الأكبر، قبل أن تترك ليفاعته شطرها الأخير والأصغر. وإذا كانت (عشب الأرصفة) قد برعت في الشطر الأول، فقد برعت أيضا في رسم شخصية الجدة، وبدرجة أدنى جاءت شخصيتا الأم هيفاء السعدي والأب إبراهيم الدلال، مع التشديد على أن ذلك قد جاء في خدمة الشخصية المحورية التي تمتلئ سنواتها الغضة بتنازع الاسم الأم سمت الطفل الأدهم والأب لا يناديه إلا مسخوط وبضرب الأب للطفل ولأمه، وباغتصاب الأب للأم، وبالتبوّل، وبانتقال الأم للإقامة في غرفة الطفل، وباختفائها. كما تمتلئ سنوات الأدهم الغضة بحكايات الجدة والتي تفصحن (من الفصحى) الكاتبة منها وتسجل حكاية الغولة التي قطعت سلالة حامولة السفراوي من القرية.
في فضاء القرية غير المسمّاة تبدأ الرواية بموت الجدة في بيت ابنها الذي نقلت إليه منذ شهور، بعد ما عاشت وحيدة منذ مات زوجها قبل ست وعشرين سنة. وكان الأدهم هو من قرّب بين جدته وأبيه الذي هجر المدرسة وعمل في الكراجات واقترف ما جعلت أمه تطرده. وقد كانت لحظة موت الجدة فارقة، جسدت الرواية وقعها الحاسم في نفس الأدهم وهو يتقلب بين رفاقه وبين النسوة النادبات في مواجهة هذا المجهول: الموت.
مقابل موت الجدة في الفصل الأول يأتي موت آخر في الفصل الثاني مغيباً شخصية الأدهم ليقدم شخصية أمه هيفاء السعدي. وكما في الفصل الأول، وكما سيلي في الرواية بدرجة أدنى، يلفع الغموض بداية السرد في الفصل الثاني، ثم يشرع بالانكشاف رويداً، ويرخي في الآن نفسه ظلالاً جديدة، فإذا بهيفاء وشقيقها هيثم توأمان وصديقان، وإذا بهيفاء صديقة (رذاذ) التي تستميل هيثم، وإذا بهيفاء تقلع عين الرجل الذي اغتصبها. وليدرأ ذووها الفضيحة يقررون موتها فيضرب هيثم شقيقته بالبلطة على رأسها، وبعون مع أبيه وأمه يدفنها، فتدوّم الأخبار عن اختفاء بنت السعدي إلى أن يحضر الرجال الذين جعلهم أنين القبر ينبشونه ويخرجون بهيفاء حية، ويأخذونها إلى المستشفى ثم يبحثون عن ذويها وعمّن اغتصبها: إبراهيم الدلال.
تقضي الواقعة على الأب قبل أن يؤتى بإبراهيم الدلال ويُفرض عليه الزواج من تلك التي حملت منه ورأت تفاصيل موتها. وتتألق الرواية هنا بوصف حمل وأمومة هيفاء، وبوصف عيشها في البيت السجن منبوذة من الجميع، وأولهم ذاك الذي اغتصبها ليثبت لنفسه اكتمال رجولته. غير أن تعليل فعلة إبراهيم الدلال ظل يتطلب من الرواية مزيداً، مثله مثل شخصية الملازم الذي يحنو على هيفاء في المستشفى، ولا يحركه في الفصل التالي اعتراف هيثم له بما دبّر لشقيقته.
من هذه الحية في موتها والميتة في حياتها، تعود الرواية في الفصل الثالث إلى الأدهم الذي تناهى له ما كان من أمر أمه وأبيه، والذي يدهم المقبرة لتجيء واحدة من أكبر فانتازيات الرواية، حيث يتحالف الأموات مع الأدهم ويخرجون ليراقبوا الأحياء في القرية، ولتنطق شواهد القبور: (إن الحياة في الخارج أصبحت قاسية لدرجة لا تطاق) فيؤوب الأموات إلى موتهم، ويلتحق الأدهم بالكنيسة راغباً في أن يصير كاهناً. وكأن القدر يلاحقه بالمصائب، فبفراره من الكنيسة يشاع أنه سرق أيقونة ثمينة ويطارده الشبان. أما هو فقد بات من الضروري له أن تختفي أمه من حياته، ولم يعد يعامل إبراهيم الدلال على أنه أبوه. إلا أنه باختفاء أمه يخرج إلى المدينة المجاورة بحثاً عنها. وهنا تحمّل الرواية شخصية الطفل ما لا يحتمل إذ تجعله يكتب لأمه رسائل. وستوالي الرواية ذلك حين يصير الأدهم كنّاساً في المدينة، وإذا به يفجؤنا بثقافته فيكتب (سأبقى متروكاً كعلامة تعجب في كتاب منسي) ويكتب قصصاً مشابهة لما يقتنيه من القصص المسلية، بل ويكتب قصيدة ويحملها إلى الجريدة لعلها تُنشر!
على هذا النحو تترنح (عشب الأرصفة) وهي تقترب من نهايتها، فتطوي الزمن والأحداث على عجل، وتمضي بالأدهم إلى شبابه، وتجعله يعود إلى القرية لينتقم من أبيهِ، وتجعل هيثم يحرق لوحاته وبيته وينتحر. ثم تأتي أم عوض التي يسكن الأدهم في واحدة من غرف بيتها، وتحتجز في غرفة أخرى ابنتها ياسمين التي شبّت بساقين ضامرتين. وتتقد الفانتازيا من جديد عبر ما تحرك دمى النساء في واجهات المحلات من أخيلة الأدهم. وبينما تظل أمه مختفية يومض العشق بينه وبين ياسمين.
من دون هذا الازدحام واللهاث في نهاية الرواية، بدت من قبل تلاعب الحكاية سواء في الزمن (في ليلة من الليالي ذات ليلة في مساء أحد الأيام عند ظهيرة اليوم التالي) أم في تفتيق السرد (أشيع أنه ورُوي أيضا لو أنها، فرضاً لو أنها...) أم في تهجين اللغة بالمفردات والتعبيرات العامية، وكذلك في التشويق كلما ابتدأ السرد بالغموض وأرخى بالظلال ثم راح يتكشف. وقد يكون في كل ما تقدم ما يعلل احتفاء وليد أبو بكر بالرواية فيما قدم له بها، مغضياً عما اعتورها في شطرها الأخير، ولعل ذلك لم يكن لأنها الرواية الأولى لإيمان بصير، بل لما انطوت عليه حقاً من غواية.