لقد ندمت ندامة الكسعى حينما لم يتيسر لي حضور ندوة (تاريخ الملك سعود) التي تبنتها دارة الملك عبد العزيز بمباركة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير مدينة الرياض؛ ذلك لأن الدعوة وصلتني متأخرة، فلم يسعفني الوقت بالحصول على حجز على أحد مقاعد الخطوط السعودية المتجهة إلى الرياض يوم السبت 4111427هـ وعندما علمت أن مدة الندوة يومان 57 من شهر ذي القعدة أصبت بإحباط، حيث إنني لو حاولت الوصول إلى الرياض في ذلك اليوم وغالباً سيكون وصولي متأخراً فلن أظفر بحضور ذهني جيد فلن استفيد من تلك الرحلة التي جاءت على عجل إذ لم تتوافر لي مقومات المتابعة المتأنية، وهذا ما لم يراعه منظمو تلك الندوة الذين كرسوا جميع فعالياتها في يومين مع أنها تستحق المزيد من الوقت لإعطاء المتحدثين والمتحاورين المجال لتحقيق عطاء متميز يثرى تلك الشخصية الفذة التي ومضت في تاريخها الحديث بما تستحقه من تقدير وتخليد.
وأود أن أسجل ملاحظة خاصة قبل أن يأخذني الحديث إلى ما هو خارج السياق، فمن الملاحظات المهمة التي لا تزال عالقة بالذاكرة على الرغم من مرور ما يزيد على نصف قرن، أنه رحمه الله ما ان يأخذ مكانه في أي احتفال يقام له في الأحساء حتى يجيل طرفه متفقداً بعض الأعيان من كبار السن، فإذا تأكد من عدم حضورهم لعجز أو مرض فإنه يقوم بزيارتهم في منازلهم دون إعلام أو تخطيط، وكأنني أراه وهو يسير في تلك الأزقة الضيقة المتربة ومع بعض مرافقيه وهو ينتقل من دار إلى دار، تحت زخات المطر، لا ينير طريقه سوى المصابيح الغازية (قبل دخول الكهرباء) يزورهم في بيوتهم ويسأل عن أحوالهم، ويستمع إلى دعواتهم وصداها يتردد خلفه وهو يغادر المكان داعياً لهم بدوام الصحة والسلامة، وتتكرر هذه المسيرة وهو يتنقل من الرفعة إلى الكوت إلى النعاثل وفي المبرز من السياسب إلى العيوني، فكم كان رائعاً ذلك الرجل الذي جعل من مهابة الملك ظلاً للمحبة والوفاء.
فلقد كانت حياة الملك سعود رحمه الله وعهده عهد الرخاء والنقاء والمحبة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم، لقد عشت الفترة التي تولى فيها مقاليد الحكم بعد وفاة الملك عبد العزيز طيب الله ثراه عام 1373هـ وكنت حديث عهد بالنجاح من المرحلة الابتدائية (التي كانت تعادل آنذاك في نظر الأهالي المستوى الجامعي) وأوائل سني تساوي حياتي العملية وكنت أحرص أشد الحرص على المشاركة في استقباله والترحيب بجلالته، كلما شرفت المنطقة الشرقية بالزيارة التفقدية كما كان دأبه في كل عام، حيث يتجول في أنحاء البلاد متفقداً أحوال أبناء الشعب مصافحاً مرحباً ماداً لهم يده بالعطا، يسد خلتهم ويقوم معوجهم ويرفع وضيعهم ويستجيب لطلباتهم ويأمر بتنفيذها دون تأخير وكأن المواطنون قد عرفوا عنه رحمه الله هذا التوجه فاستغلوه بمحبة وتقدير، فما ان يتضح العزم لتوجهه إلى ناحية أو إلى طريق، حتى يتسابقوا لنصب الخيام وبيوت الشعر وفرش السجاد والوقوف في استقبال جلالته وفي أيديهم المداخن ودلال القهوة وكان رحمه الله يعرف الهدف والمغزى فلا يقصر في العطاء حيث لا يعود أحد أولئك الذين التحفوا بالأمل إلا وعاد إلى منزله ويداه مملؤتان بالنوال إذ كان رحمه الله سريع الاستجابة لكل نداء واستغاثة سواء من داخل البلاد أو من خارجها، مجرد برقية أو رسالة يكتبها كاتب العرائض ما ان تصل إلى الديوان حتى يأتي الجواب بالإيجاب في أسرع وقت على الرغم من صعوبة المواصلات، وتعذر وسائل الاتصالات السريعة معروفة وكان رحمه الله لدى أبناء الشعب باسم (سعود أبو الخيرين) فقد كان ولي الأيتام وسند الضعفاء والمعدمين، كانت بعثات علاج المرضى في الخارج لا تتوقف طوال العام، حيث كلف بعض العاملين في السفارات السعودية في الخارج بالتفرغ لمتابعة أحوال المرضى الذين يتلقون العلاج في الخارج وتهيئة ما يلزمهم ومرافقيهم من سكن ومصاريف وخلافه، وقد أكون خرجت عن المسار الذي كان القراء يأملونه مني حيث أتحدث عن إنجازات الملك سعود وأعماله التي بعثت شواهدها بارزة للعيان حتى الآن التي ستستمر على مدى الأزمان فهذه النواحي وجدت من هو أفضل مني إلماما واحصاءً وتوثيقاً، لذلك رأيت أن أتحدث حديث القلب الذي يكن الحب للمحبين والمحبوبين تفهمه النظرة الحانية والعبارات اللطيفة والإشارة اللبيبة وقد أشرت في بداية هذا الحديث عن شيء مما يثلج الصدر وسوف أواصل الحديث عن مشاهدات لا تزال ماثلة للعيان، فقد شاركت في استقباله بمطار الظهران في عام 1379هـ وهو يتهادى بطلعته البهية وقامته التي تميزه بين الأقران وهو نازل من الطائرة الملكية وعن يمينه الرئيس جمال عبد الناصر وعن يساره الرئيس شكري القوتلي وأثناء توقفهم لتفتيش حرس الشرف قال رحمه الله :
قد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن الا تلاقيا
لقد شكل ذلك الاستقبال الحميمي وذلك التواصل الأخوي عرساً عربياً هزجت به القلوب ولهجت به الألسن وطبقت صوره وأخباره آفاق الدنيا، وكان عهداً جديداً لالتئام شمل الأمة العربية وتوحيد كلمتها، وكأن ذلك الحدث استكمال لما بدأه الملك سعود من مواقف صامدة إلى جانب إخوانه العرب ضد العدوان الذي تعرضت له مصر وسورية، وضد ما يلاقيه إخواننا في فلسطين وتونس والجزائر وعمان فقد كانت مواقفه مشهودة قولاً وعملاً ودعماً بالمال والمناصرة في المحافل الدولية.. لمست ذلك في لقاءاته الصحافية وفي خطبه وأحاديثه الموجهة إلى الشعب السعودي وإلى الأمة الإسلامية في المناسبات المختلفة كالأعياد وحلول شهر رمضان المبارك وكذلك الموجهة إلى جموع الحجيج الذين يؤمون الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج، فكان في كل تلك الخطب والأحاديث واضحا وضوح الشمس في رابعة النهار لم يستعمل التعابير المبهمة ولا المصطلحات المنبعثة الأيدلوجيات السياسة المتقاطعة وإنما وضوح العرب وصراحة الأعراب تجسد رغبته في الوصول الى أبناء الشعب.. ففي إحدى زياراته الميمونة للأحساء (عندما كان ولياً للعهد) شكا إليه الشيخ عبد العزيز التركي، معتمد المعارف آنذاك عدم إقبال الطلاب على مواصلة دراستهم في المدرسة الثانوية، لأن أحوال أهاليهم المادية لا تساعدهم على ذلك ولذلك فهم يطمحون إلى الالتحاق بالوظائف فأصدر أمره إلى مالية الأحساء أن يوظف الطلاب نصف دوام برواتب تساعدهم على مواصلة دراستهم وعدم تكليف ذويهم بأعباء تنوء بها كواهلهم وهذا مما كفل للمدرسة الثانوية الاستمرار حتى أصبحت ملتقى للطلبة الوافدين من أنحاء المنطقة الشرقية القطيف، والجبيل، والدمام، وقد واصل أكثرهم الدراسة حتى تهيأ لهم الابتعاث إلى بيروت والقاهرة ونالوا الشهادات العليا وأصبح منهم وزراء وأطباء ومهندسون ورؤساء مصالح.
وفي زيارته الأولى عام 1373هـ بعد أن أخذت له البيعة بالملك المح بعض الخطباء عما يعانيه الفلاحون بالأحساء من شقاء وضح في المحاصيل، فأمر رحمه الله بمساعدة الفلاحين بمبلغ ملونين ريال.
وغير ذلك من الأوامر الفورية التي لا تنتظر (التأجيل لأن يرى أن وصول المعونة إلى ذي الحاجة في وقتها أنفع له بعد أن يستهلك الأيام في الانتظار لقد أتيح لي الالتقاء بجلالته في الاحتفالات مضاربهم وهجرهم وفي المؤتمرات فكنت أرى منه وأسمع، العبارات وهي تتدفق من شفتيه بعفوية لا تكلف فيها فهو يتحدث ويسأل آخر عن صحته وأحواله، ويسأل ثالث عن ابنه فلان وفلانة، كما يسأل عن أحوال الزراعة، والمزارعين، وأبناء البادية في وكل ما يهم المواطنين ويشغل بالهم من آمال معلقة على هذا الإنسان الطيب المهاب نعم: إنه سعود أبو خيرين.0