أتذكر الآن لا، لا أتذكر، بل يلذعني الآن ألم يشبه الألم الذي أحزنني وأنا في السنة الرابعة الابتدائية ونحن نقرأ قصة في درس المطالعة، فقد كان مقررًا في تلك السنة قصة بعنوان (الأعرابي التائه في الصحراء) الأعرابي المحفورة صورته بذاكرتي حتى الآن، رسم بالأبيض والأسود لوجه بائس كالح لرجل في حدود الخمسين من عمره.
أذكر تلك الملامح الآن، وأذكر كم تأثرت لهذا الذي ضاع في الصحراء، وفي أثناء التيه وجد كنزاً من الذهب الخالص، لكن لم يكن قادرًا على الفرح به، لأنه كان على وشك الهلاك عطشاً، وكان يأمل أن يجد قطرة ماء في وسط ذلك التيه.
كتاب المطالعة تركنا آنذاك مع جملة صفيقة باردة تنتهي بها قطعة المطالعة، حيث الشيخ يواجه شبح الموت الوشيك وهو يتساءل: بماذا ينفعني الذهب الآن وأنا سأموت من العطش؟ هذه النهاية المفتوحة ظلت مفتوحة إلى مالا نهاية.
متنام عطش التائه يا سادة!! قتلنا التيه ألف مرة، ولم يتعلم العرب التائهون كيف يستفيدون من الذهب، أو كيف يموتون بحماقة على الأقل، أقصد بحماقة أقل.
ترى متى يُعدّل العرب كتب التاريخ وما أفسده مؤلفو كتب المطالعة وأبطال التاريخ؟ متى نقرأ بالفعل، بالفعل وحده، ما يمكن أن يصحح فداحة الأخطاء في تواريخنا الحديثة وضياعاتها المميتة؟ متى نرسم خارطة صحيحة قبل المضي في مسالك الموت، ولا نبدو مثل ليلى الصغيرة التي سارت ببلاهة الصغار، حتى لا أقول براءة الصغار، ورسمت طريق العودة بفتات الخبز حتى تستدل به في طريق العودة، فأكلت الطيور أرزاقها وتربص بها الذئب في عقر الدار.
أريد أن أنسى القصص الغبية والقصص المؤلمة، وأريد أن أفك الارتباطات بين الأساطير والوقائع المخزية، بين الحقائق والمجاز.
ولكن المجاز طريق لم يكن لدفقات الفكر والوجدان إلا أن ترتطم بما فيه من أشلاء الأوهام والطموحات!! ألذلك تكدست أرواح الشعراء وأعمارهم على خارطة المجاز!! الطريق المجاز لعبة الشعر والتاريخ.
سأوغل قليلاً في تلافيف العلاقة بين الحقيقة والمجاز! أذكر في تلك الفترة (السنة الرابعة الابتدائية أو بعدها بقليل، كان التلفزيون يعرض ضمن ما يعرض أغنية أظنها لغازي علي تقول بعض كلماتها أنه غريق (تاه) في عينيها، وحيث إني كنت للتوقد انضافت لمعجمي, الذي بدأ ينمو في ذلك الوقت, كلمة (التائه) بفضل (التائه في الصحراء) فقد كنت أرقب بشفقة وغباء أيضاً هذا التائه الجديد، وكنت أتوقع أن يترنح أو يموت! وربما يكون فعل ذلك مراراً في ذاكرتي مع تكدس صور العشاق الذين تاهوا (في صحراء بلا ذهب).
لم أكن أعي في ذلك الوقت المبكر نسبياً من نمو معرفتي اللغوية ومعرفتي الوجودية أن (الحدود) قد ترسمت بين الحقيقة والمجاز.
ولم أكن أعلم أن الولوج إلى المجاز يقتضي الإبحار في الخيال والانفصال عن الواقع، كنت أعرف فقط أن التائه مقبل على الهلاك، التيه تيه لا مجاز ولا خيال.
لم أكن قد فهمت بعد أن ما يفصل بين الحقيقة والمجاز هو خط وهمي من الكذب أو التمويه، وكيف يمكن للأطفال أن يفهموا أن الأشياء غير الأشياء، وأن ما يقال يحمل باطناً وظاهراً!! علمت فيما بعد، فيما علمتنا إياه قسراً السياسة وزيف التواريخ، أن التصاريح تحمل باطناً مروعاً، وأن ظاهره للشعوب أولئك المدججين بعقلية وجاهزية التصديق، والبحث عن طوافة الرموز وأساطير البطولة!! لا ملاذ إلا بالمجاز ولا هلاك إلا بالمجاز، المجاز من أمامكم والمجاز من خلفكم!! ألا برزخ اليوم نلتقط فيه عقولنا يجعلنا نبتكر الوسائل لإنقاذ التائه في الصحراء؟؟ كنت وما زلت (وليضحك علي من يريد أن يضحك) أشعر بمسؤولية تجاه ذلك الأعرابي الذي بقي معلقاً في كتاب المطالعة، ولا أدري متى سيتم إنقاذه؟حلم استطال وتعملق قدر شعوري أنه ما زال على الرغم من سلاسل الأعوام التي مرت ما زال ينتظر!! ولا أريد بعقلية طفولية هذه المرة أن أصدق أو أتخيل أنه قضى، فهل يصدق عاقل أن إنساناً يبقى بلا ماء طيلة أيام فما بالك بسنوات طوال!! لكنني كنت أصر، أصر أنه ربما ما زال ينتظر ذاوياً وعلى شفير الموت لكن سيبقى فيه رمق، ما دام فينا وهج طفولة صادق يلحم ما بين الحقيقة والمجاز, ويحمل الحلم ويدفعه ويصر على أن يكون.
قفلة:
الأساطير تخلق حينما يصر الواقع على التخلي عن زيفه، يصر على أن يكون صدقاً وحقاً كما يجب أن يكون، هنا يغادر واقعيته ويتحول إلى نموذج فذ ثم يطير إلى عالم اليوتوبيا والمستحيل.