هذا التحول الذي أصاب الذات العربية، وجعلها تتحول من شخص إلى شخصية، ومن ذات فردية إلى موضوعية تتكون من عدة صفات يمكن أن تحل فيها، مكنها من التحاور والتجاور، والاندماج مع القوميات الأخرى، ذوات الهويات المختلفة خاصة في منطقة الشرق حيث كانت اللغة العربية تشهد منافسة من لغات سكان البلاد الأصلية، إذ ظلت اللغة العربية حاضرة في تلك المناطق سواء على المستوى الرسمي أو على المستوى العلمي، والأدبي، والشعبي بل تداخلت مع لغاتهم الأصلية حتى أصبحت جزءا مكينا منها، مما يعني أن مكونات الهوية العربية قد تداخلت في تكوينات أبناء الأقاليم الأخرى، ولم تواجه بأدنى تنافر أو تضاد مع الهويات الأخرى، فكان الشعراء والعلماء في ذلك العهد يكتبون آثارهم بالعربية والفارسية على السواء. ويمكن أن نستشهد على هذا بالشاعر الكبير عمر الخيام (ت 517)، إذ كانت مؤلفاته موزعة بين الفارسية والعربية، ومثله كذلك جلال الدين الرومي (672) الذي صدر ديوانه «مثنوي» بمقدمات عربية، وكان يأخذ الصور والأوزان الفارسية لينظمها بلغة عربية في مزج بين اللغتين والثقافتين باعتبارهما ثقافات متداخلة متكاملة، مما يبين مقدار التداخل الذي أصاب الأمتين. ومثل هؤلاء حافظ الشيرازي الشاعر الكبير (ت792) وعلى الرغم من أنه متأخر عنهما مما يمثل نوعا من تجذر اللغة الفارسية في مواطنها كان يكتب شعره بالعربية والفارسية.
بل إنها -اللغة العربية- دخلت في آدابهم فجاءت مكونا رئيسا من جنس أدبي يسمى «الملع» وهي منظومة يزاوج فيها الشاعر بين شطر عربي وشطر فارسي، أو بيت عربي وآخر فارسي ويكون المعنى فيها متتابعا بين اللغتين، وذلك من مثل قول الشاعر:
يرى محنتي ثم يخفض البصرا
فدته نفسي تراه قد سفرا
داند كزوي من همي جه رسد
ديكر باره عشق بي خبرا
بل إن الملمعات قد شاعات في العصر العثماني وكان الشاعر يمزج فيها بين ثلاث لغات: (العربية، والفارسية، والتركية) باعتبارها تمثل وجوهاً لشيء واحد. وهذا يعني أن اللغات تحولت في هذه المناطق إلى تعبير عن هويات متعددة متداخلة فيما بينها تنضوي تحت هوية واحدة، تعبر كل واحدة عن نفسها دون أن تشعر بتعارض مع الأخرى كما يبدو في هذا التزاوج بين المكونات العربية والفارسية الإيقاعية والثقافية واللغوية. ومما يدل على أن شعر الملمعات دليل على مقدار تمازج الثقافتين، وصورة من صور تعدد الهوية في ذلك الزمن، أن هذا الفن قد ظهر في مرحلة مبكرة من تاريخ الحضارة العربية، في عصر ازدهار الخلافة الإسلامية وقوتها، وانتشار الثقافة العربية، فيعود أقدم ظهور له إلى أواخر القرن الثالث الهجري، وهو فن فارسي بحت وليس عربيا، يسير عليه الشعراء الفرس في كتابة قصائدهم التي تكون غزلا أو تأملا، فيعبرون عن مشاعرهم الخاصة ويختارون بأن تكون اللغتين هي الطريق إلى ذلك، ونشأ في البلاط الفارسي، كما أنه لا صلة له بـ»الملع» العربي الذي شاع في عصر الصنعة المتأخرة، والبديع، ويقصد به نقط أحد شطري البيت في حين إهمال الشطر الآخر من النقط.
وعلى الرغم من هذا النضج في مفهوم الذات، والنضج في تكون الهوية سواء كان على مستوى الهوية الواحدة أو الهوية المتعددة، كما أنه على الرغم من الوعي بقيمة الذات بوجوهها المختلفة، إلا أننا لا نستطيع أن نقول: إن هناك حديثا نظريا عن مفهوم الأنا في الثقافة العربية، إذا استبعدنا حديث ابن تيمية المشار إليه السابق، كما لا نجد حديثا عن المقومات التي ينبغي التمسك بها بوصفها عناصر مكونة للأنا، كما لا نجد حديثا عن توظيف «الأنا» في مقابل العناصر الأخرى لتحقيق مكاسب فئوية على حساب الآخرين، وهو ما يعني مطلق الانصهار بين هذه المكونات وانحسار القلق في توصيف الذات، وفي تكوينها وانتمائها. وذلك يعني أن البحث النظري حول قضية الأنا كان غائبا وهذا الغياب يعكس الاطمئنان إلى المفهوم السائد والركون إليه بوصفه حالة مسلمة لا تحتاج النقض.
صحيح أن كلمة «الهوية» بهذا اللفظ جاءت في أحاديث ابن عربي وعنى بها الحقيقة والأصل، وقد اشتقها من الضمير «هو»، وأصل الفكرة لديه أن ضمير «هو»، يعود إلى الله -عز وجل-، ولأن الله هو الحقيقة المطلقة في هذا الوجود، وهو أعرف المعارف، وهو الحاضر أبدا، فقد أصبح الضمير «هو» أعرف المعارف لديه بوصفه يحيل إلى الله، وهذا يخالف الرؤية النحوية التي ترى أن ضمير المتكلم أعرف المعارف، وهنا أصبحت كلمة الهوية تدل على الحقيقة، فهوية الشيء حقيقته. في حين أن ما ترجم إلى الهوية من اللغة الإنجليزية (Identity) مأخوذ أولا من كلمة (Identical) الذي يعني التماثل، فمن خلال تماثل الأشخاص، وتشابههم يمثلون جماعة واحدة، ويكون انتماؤهم إلى هذه الجماعة يمثل هويتهم، وما يعرفون به. وحين يتم تعريفه من خلال انتمائه إلى جماعته من خلال تطابقه معهم يتم النظر إلى هذه الصفة التي ميزت هذا الشخص عن غيره ليكون صالحا للانتماء لهذه الجماعة بوصفها هي التي تميزه عن غيره من الناس، ومن هنا يصبح للهوية مفهوم فردي، وهو ما يميز الإنسان الفرد غيره مرة على مستوى الفرد ومرة على مستوى الجماعة، وتصبح كلمة الهوية من الكلمات التي تعني التماثل مرة والتمايز أخرى وهو ما يسميه اللغويون بالأضداد. إلا أن هذا المفهوم المستقى من اللغة الإنجليزية ليس ما نجده في كتابات ابن عربي، ولا قريبا منه، فالمعنى عند ابن عربي يتصل بالله -عز وجل- وهو خاص به، وقد سمى نوعا من التوحيد بـ»توحيد الهوية». وليس المهم السياق الذي جاءت به هذه الكلمة بقدر أهمية التركيب اللغوي، والمعنى الذي ارتبط به وهو قريب إلى الدلالة الحديثة لهذا المصطلح.
وخلاصة القول إنه على الرغم من الوعي باكتمال تكون الذات وحقيقتها، وعلى الرغم من تطورها، وتطور مفهومها في التراث العربي القديم حتى أصبحت متعددة دون تقاطع، فإن البحث النظري كان معدوما أو شبه معدوم، فلا نكاد نجد رسالة، أو كتابا يبحث في مكونات الأمة السابقة، وأنواعها، وتشرذمها، وما يمكن أن تكون بها واحدة على الرغم من وجود ما يشعر أحيانا بأهمية ذلك من خلال التحولات التي طرأت على الأمة العربية والإسلامية بتاريخها الطويل كالحروب الصليبية التي هددت الخلافة الإسلامية، ومزقت الوطن العربي، واحتلت جزءا عزيزا على المسلمين، وكان لها أثر في ظهور دعوات الاتحاد، والتعاون للوقوف في وجه الغازي المحتل، وكحملة هولاكو التي بلغت المسلمين والعرب في عقر دارهم واستباحت بيضتهم، وحطمت رمز تجمعهم ووحدتهم، ثم تولي المماليك دفة الأمور ممن لم يكن يتقن العربية في أغلب أحاديثه، وتراجع العناية بالأدب والفكر والعلوم.