تكشف تجربتنا الديموقراطية البلدية أن لها خصوصية استثنائية تختلف عن الديموقراطيات الأخرى، فنتاجها البكر وإن كان خديجاً بمقاييس الفعل ومساحة التأثير، يثبت أن خصوصية المجتمع السعودي تتكاثر وتتزايد تبعاً لشرعية المبدأ وتعدد صوره ومضامينه.
الانتخابات البلدية في مجتمعنا المحلي ولدت مشوهة بفعل عدم جاهزية المجتمع بنخبه ودهمائه لهذا المستوى من الشركة في صنع القرار. أعلم أن بعض من أساتذتنا الأفاضل يرون أن المجتمع جاهز للديموقراطية منذ مئات السنين، لكن التجربة المعاشة في دورات عدة لهذه المجالس تؤكد أن الانتخاب والصندوق ما زالا مفهومين غريبين على مجتمعنا، وأن التجارب السالفة الذكر شوهت الديموقراطية وأنتجت طفرة في مفاهيمها لعل المجالس البلدية شاهدها الأول ويبدو أنه لن يكون الأخير!
عشت هذه التجربة كناخب مرتين، في الأولى كنت محتسباً للمبدأ والفكرة، وفي الثانية احتسبت للرحم والقبيلة. التجربة الأولى كانت البكر وكانت مقبولة كسبق لم يستوعبه المجتمع كما ينبغي، وفي الثانية أحجمت عن المشاركة كغيري من السعوديبن الذين ترسخ في أذهانهم عدم جدوى هذه المجالس.
في التجربة الثالثة حضرت القبيلة بتاريخها وجغرافيتها وانتصرت لنفسها ودفعت بمرشحيها ليحتسب أفرادها انتخابهم ودفعهم ليكونوا أعضاء المجلس الجديد في إصداره التجاربي الثالث.
يثبت الواقع وحجم الإنجاز أن هذه المجالس أصبحت تكايا للعاطلين عن العمل والذين يبحثون عن بصيص أمل وشعلة من نور تبقيهم أحياء بمقاييس الحيوات التي كانوا يحييونها سابقاً، البعض شمر عن ساعديه لا ليعمل ولكن ليختلف مع باقي الأعضاء، فيما البقية الباقية من جوقة الرتابة همهم التوقيع على محاضر الاجتماعات والتي تتكرر بتكرر المناسبة ومتطلباتها.
هولاء الأعضاء يجمعهم شيء واحد وهو وجاهة المجلس داخل سرادقات الأمانات والبلديات والعزاءات، إضافة إلى المبلغ المالي الذي يدخل في حساب العضو كل شهر، ناهيك عن الأنشطة البليدة اللابلدية والتي يمارسها بعض من هولاء الأعضاء، كأن يعمل معقباً داخل أروقة الأمانات أو متحدثاً رسمياً باسمها في دهاليز الاجتماعات واللقاءات، كما أن بعض الأعضاء يدخل المجلس ويخرج دون أن ينبس ببنت شفة والسبب يقول جئت مستمعاً ومستمتعاً بالديموقراطية!، وتمضي السنون الخمس أو الأربع وهو كالمومياء أو التمثال الشمعي جامد لا روح فيه ولا حراك.
شخصياً ألوم نفسي على المشاركة في هذه الانتخابات من خلال مفاهيم الاحتساب المختلفة التي تغشتني في التجربتين المضيتين، لذلك استفتيت أحد المخضرمين في العمل البلدي عن كفارة هذا الفعل الاحتسابي الذي أصاب الديموقراطية النزيهة في مقتل قبل أن يصيب أحلامي وآمالي، فقال:-
(لا تثريب عليك فنحن من أساء إلى التجربة ومفاهيمها، كل ما عليك فعله أن تستغفر ربك وأن لا تلدغ من التجربة مرتين)، قلت: لقد لدغت مرتين!، قال ووجهه يتهلل بشراً: (لا تثريب عليك، يغفر الله لك،كفارة ذلك كله انتخابات شورية قادمة سأترشح فيها عن دائرتكم وسأكون بكم ولكم، منكم وإليكم، فإن رشحتني فقد أصبت وإن أحجمت فقد أخطأت، وتذكر أنك مجتهد فإن أعطيتني صوتك ووفقت (أنا) في المجلس فقد أصبت ولك الأجران، وإن أخطأت فمن الديموقراطية وشيطانها، وفي الوقت ذاته تصيب أجر الاجتهاد كونك احتسبت ترشيحي لأكون مرشحك في المجلس القادم، واعلم يا رعاك الله إننا حديثو عهد بقبلية وجهوية ومفاهيم أخرى، ما زالت تسيطر علينا وتحد من تغلغل الديموقراطية فينا قولاً وعملاً).
ويضيف قائلاً:- (مجالسنا البلدية كانت تجربة أفضت إلى نوع من الشللية المقيتة، كل ما عليك فعله الآن، أن تذيع في دائرتك الانتخابية محتسباً للديموقراطية هذه المرة، أن هولاء الأعضاء انتهت صلاحياتهم وأنهم باتوا يشكلون درساً تعلمنا منه أن الديموقراطية إرادة وعدالة قبل أن تكون ورقة مدفوعة الأجر احتساباً ترمى في صندوق أسود!).
- علي المطوع