حين نتحدث عن نقدة الرواية؛ فإننا نتحدث عن زخم من الغموض يلف النقد الروائي بلا استثناء، ولاسيما النقدة الذين راحوا يترجمون الكتب الغربية، فهم ينـزعون إلى الغموض، في حين أن ما يترجمونه سهل العبارة، واضح المعنى في لغته الأصلية.
إن كان النقدة المترجمون غامضين؛ فإن غير المترجمين أقرب منه إلى الغموض، وهنا، لا بد من وقفة نفسية تحليلية، لعل وعسى نقف على السبب، إذ اكتنف الغموض جل الدراسات النقدية التي نقرؤها اليوم، ولم يسلم منها سوى النزر القليل!
إنني أميل إلى أن أولئك النقدة قبل تخصصهم في النقد الروائي، راحوا محاولين في دأب أن ينقدوا الشعر، من حيث معانيه وأوزانه، وما فيه من بنيات نصية، يقفون على البنية، ويستلهمون النسق فيها وبما جاورها، فكان أن فشلوا حين لم تكن آذانهم موسيقية، أي أنهم لا يحسنون نظم الشعر، ولا يعرفون الوزن الشعري، وقد حاولوا من قبل ففشلوا، ولم يكد يعتريهم الفشل للنقد الشعري حتى راحوا إلى النقد النثري، فوجدوا ضالتهم، ورسموا مسارهم النقدي بعد لأي، كما فعل طه حسين في تعويض فشله الشعري نظمًا.
أكبر الظن أن عقدة النقص لم تفارقهم، فهم حين ذاقوا مرارة الفشل؛ أحبوا أن ينتصروا للنفس المغلوبة، وأن يكسوها بكساء لا يقل عن المتعذر بالأمس، فكان أن طرقوا النقد الروائي خاصة، وضربوا فيه بسهم نافذ، ومن شدة توغلهم فيه؛ استلذوا التقعر في اختيار المصطلحات حين الترجمة، ولا أدل على ذلك إلا مصطلح «التبئير» الذي استخدمه أول مرة، الدكتور أحمد المتوكل، متخصص اللغة واللسانيات، ثم ذاع، وأغلب الظن أن المتوكل أنف من أن يقول: الرؤية السردية، أو وجهة النظر، أو زاوية الرؤية، أو الجهة، أو المنظور. وإنما رحل بعقدته الضاربة في النقص النفسي إلى المعاجم يبحث فيها عن لفظة غريبة، ولم يسمع بها عرب الجاهلية ربما. فكان أن وجد في لسان العرب: بَأَرْتُ، أَبْأَرُ، بَأْرًا. وهو لم يكد يراها في المعجم حتى أناخ راحلته عندها، وقال مخاطبًا العربي الجاهلي في زهو: العصر الحديث سيسترجع ما أهملته أنت من مفردات!!
لقد وجد المتوكل البؤرة تعني حفرة النار، ثم حفرة البئر لتجمع المياه، فالتبئير يعني الجمع والحصر، فالسرد يجري داخل التبئير من خلال بؤرة لها حيز مغلق، كما أنها تحمل رنينًا ذا جدة ونُدرة عند المتوكل، فلم يتوانَ في الإمساك بها!!
إن الدكتور المتوكل شهير بغموضه، فهو متقعر في اللغة، وغامض في الإفهام، وهذا حال من انبرى لتعليم اللغة وتوضيحها، حيث يغلق نصوصًا كانت مفتوحة، فهو يريد للعين كحلاً، فأصابها بالعوّار. ولعل كتابه «دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي» خير شاهد، وكذا غيره، وهو يذكرني بسيبويه حين قالوا عن كتابه الكتاب من إنه معجِم في بعض عباراته لأنه فارسي! لقد أصبح كثير من نقدة الرواية يرومون المصطلحات الرنانة والغامضة، ولذلك نجدهم يفردون صفحات في مؤلفاتهم لبسط تعريف بتلك المصطلحات التي اخترعوها خالصة لهم، أو تلك التي سبق أن استخدمت، ومنهم من لم يفعل، فبقيت المصطلحات غامضة، كما سعيد يقطين في ابتداعه: ترهين وتزمين ومناصة... إلخ.
إن المظنين أن لسان حالهم، حين توقفوا عن نقد الشعر، يقول: لن نعدم النقد، فلئن كان قد عسر علينا نقد المنظوم، فها نحن ننقد المنثور!!
إن من يتعمد تغليب اللفظ على المعنى في تآليفه؛ فإنه يخفي تحت هاتيك الألفاظ خواءً فكريًّا، حيث لم يجعل الله لرجل من قلبين في جوفه، فإما أن يركز على اللفظ، وإما أن يركز على المعنى، وفي النقد عادة، يجب أن يكون المعنى واضحًا بغية الوصول إلى الفكرة المنشورة، والألفاظ، والحالة هاته، تأتي تبعًا وعلى سجية مطواعة بلا زخرفة وبهرجة.
بيد أن الغموض والتقعر في النقد الروائي قد انسكبت عدواه على الروائيين أنفسهم، فألفينا روايات متأخرة يلفها الغموض من كل جانب، فهي أشبه بالطلاسم السحرية، وهي إلى الهذيان أقرب منه إلى المعقول المفهوم، فأصبحت الرواية من جُراء ذلك حصرًا على النخبة، بل تكتب من أجل الفن للفن، حيث لا يستفيد منها المجتمع بشرائحه المتعددة، وبذلك لا ترقى إلى تهذيب الأخلاق، كما أشار سليم خوري في أول مقالة له عن الرواية العربية في مجلة الضياء البيروتية، عام 1899م.