هنا دراسة مهمة وكاشفة وفريدة من نوعها بقلم بروفيسور تريتا بارسي وهو باحث ومفكر أمريكي من أصل إيراني. وتجادل الدراسة بأن توجه إيران الحالي لمناصرة القضية الفلسطينية لم ينبثق أساساً من منطلق التضامن والوحدة الإسلامية التي دعت إليه أيديولوجية الثورة الإسلامية الإيرانية – كما يظن الكثيرون - ولكن من موقف إيراني واقعي وبراغماتي في العلاقات الدولية يسعى إلى الهيمنة الإقليمية على حساب الجيران العرب تبلور وبدأ العمل به فعلاً في آخر سنوات حكم الشاه الراحل محمد رضا بهلوي واستمر العمل بهذا الموقف البراغماتي بعد الثورة الإسلاموية. لقد استنتج الشاه أن استمرارية الزعامة الإقليمية الإيرانية التي كان يعمل لتحقيقها كانت تحتاج قبول العرب ودعمهم، وهو ما لا يمكن تكسبه إيران إلا من خلال توجه براغماتي مؤيد لقضية فلسطين في السياسة الخارجية الإيرانية.
ولد الباحث تريتا بارسي في طهران عام 1975. وهاجر بارسي مع عائلته إلى السويد لحماية والده الأكاديمي والمعارض المرموق الذي سجن لأسباب سياسية في عصر الشاه، ثم هاجر مع عائلته إلى الولايات المتحدة خوفاً من الملاحقة بتهمة معاداة الثورة الإسلامية.
حصل بارسي على درجة الماجستير في العلاقات الدولية في جامعة أوبسالا السويدية، كما حصل على درجة ماجستير ثانية في الاقتصاد في كلية ستوكهولم للاقتصاد. ثم حصل على شهادة الدكتوراه في «العلاقات الدولية» من جامعة جونز هوبكنز الأمريكية المرموقة. وكتب أطروحته للدكتوراه حول «العلاقات الإسرائيلية-الإيرانية» تحت إشراف البروفيسور فرانسيس فوكوياما.
ومن ثم حول تلك الأطروحة إلى كتاب بعنوان: «مثلث الغدر: التعاملات السرية لإيران وإسرائيل والولايات المتحدة» (نيو هيفن: قسم النشر بجامعة ييل، 384 ص، 2007). وهو المؤسس والرئيس الحالي لـ«المجلس الوطني الإيراني الأميركي». وهذه الدراسة القصيرة مستمدة من الكتاب السالف ذكره، وستشكل أحد فصول كتابي المترجم القادم بحول الله. وسننشر هوامش المؤلف المرقمة عدديًّا (1، 2، إلخ) في الحلقتين الأخيرتين. انتهى التقديم.
لماذا تناصر إيران القضية الفلسطينية؟
يسود اعتقاد لدى معظم العرب أن استراتيجية إيران المناصرة لقضية العرب الأولى، أي القضية الفلسطينية في الشرق الأوسط وسعيها الظاهري إلى إدارة علاقاتها مع تلك الدول ضمن إطار التضامن الإسلامي متجذّرة في أيديولوجية الثورة الإسلاموية الإيرانية أي شعاري التضامن والوحدة الإسلامية. وللوهلة الأولى وبنظرة سطحية للقضية، يبدو الاختلاف بين هذه السياسة الخارجية وسياسة الشاه الراحل محمد رضا بهلوي لافتاً؛ فبينما صنع الإمبراطور الإيراني الراحل علاقات استراتيجية مع دول قوية ولكنها بعيدة، مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، لتحقيق التوازن مع جيرانه العرب، سعت الجمهورية الإسلاموية نحو الخيار العربي لمحاولة ردم الفجوة بين العرب والفرس من خلال ترويج وتعزيز نظام إسلاموي يتبنى موقفاً مؤيداً للفلسطينيين بصورة راديكالية.
وبينما خفتت التجليات الإسلاموية المتطرفة لهذه السياسة خلال فترة رئاسة محمد خاتمي (1997-2005)، إلا أن انتخاب الرئيس الإيراني الشعبوي المحافظ محمود أحمدي نجاد، أعاد تنشيط التوجه الإسلاموي الإيراني، وهو ما يُكسب طهران نقاطاً عديدة وشعبية ثمينة عند الجماهير العربية الساخطة (على حكامها الذين فشلوا في تحرير فلسطين)، ولكن فقط على حساب زيادة حدة التوتر مع الحكومات العربية فحسب. وبالنسبة إلى كثير من خصوم إيران، فإن سياستها التي تميل نحو الجماهير العربية والإسلامية وضد الغرب ليست حكيمة وغير مفهومة، ونتيجة لذلك اعتبرت ذات أساس أيديولوجي. وفي الواقع، فإنه يمكن النظر إلى موقفها هذا كتناقض مع تاريخها القديم الحافل بتوترات مع العرب الذي يرجع إلى القرن السابع أو حتى قبل ذلك، وذلك لأنها اعتمدت حالياً سياسة مؤيدة لقضية العرب ضد إسرائيل، والأخيرة دولة ليس لإيران الفارسية معها مظالم تاريخية كالعرب. ويذهب البعض إلى حد القول: إن العداء الإيراني-العربي هو سمة دائمة للإطار الأمني الإيراني(1).
ونتيجة لذلك، فإن هؤلاء المحللين يستنتجون أن أي سياسة خارجية إيرانية لا تسعى إلى ربط إيران بشكل دائم بشراكة استراتيجية مع الدول غير العربية في المنطقة هي ببساطة غير صحيحة ومضادة للتوازن الجيوسياسي في المنطقة. ويشاركهم في هذا النقد المحللون الإسرائيليون الذين يلتزمون مبدأ ديفيد بن غوريون، المعروف بـ«مبدأ دول المحيط»(2). ووفقاً لـ إليعازر تسافرير، الرئيس السابق للاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) في العراق، فهناك أدلة على طبيعة العداء الدائم لإيران مع دول الجوار العربية كما يثبت لنا التاريخ:
«أيّاً كان اسم إيران - بارس، عيلام، ميديون، وأيّاً كان اسم العراق - بابل، آشور، أكاد، سومر – فقد كان هناك دائماً تنافس وأحياناً حرب بينهما... وعرف كوروش الكبير وهو أحد أعظم ملوك الفرس أن هناك مصلحة مشتركة بين إيران وإسرائيل في الشرق الأوسط. وهذا هو السبب الذي جعل كوروش يسمح بعودة عزرا الكاهن ونحميا اليهودي (العامل في بلاط الملك) من النفي ليعيدا بناء المعبد (اليهودي في القدس). وكان من الواضح أن في هذا مصلحة له من أجل السيطرة على العراق. إيران مسلمة ولكنها ليست عربية، وللحفاظ على هذا التوازن تحتاج إيران لأناس آخرين غير عرب يشاركونها في المصالح»(3).
هناك العديد من المشاكل في هذا التحليل لخيار إيران العربي.
أولاً- أنه يفترض وجهة نظر ثابتة لميزان القوى في الشرق الأوسط، وينظر إلى الحقائق التاريخية كقوانين موضوعية ويفشل في إدراك الأسباب الجذرية لتلك الظروف.
ثانياً- أنه يفشل أن يأخذ في الاعتبار التغييرات في الإطار الأمني الإيراني والتحوّلات الدورية في توزيع القوى في المنطقة.
ثالثاً- أنه يفشل في أن يعترف كيف أن تحقيق تطلعات إيران للقيادة استدعت تحولاً في تخطيط سياستها الخارجية.
أخيراً، وربما الأكثر وضوحاً، أنه يهمل حقيقة أن انجذاب إيران تجاه الدول العربية سبق الجمهورية الإسلاموية.
تجادل هذه الدراسة بأن الخيار العربي لإيران لم ينبثق عن الأيديولوجية الإسلاموية الثورية في إيران، ولكن من الموقف الإيراني المكتشف حديثاً(**) كالقوة المهيمنة الأبرز في المنطقة في ظل حكم الشاه. وأن استمرارية لعب هذا الدور كان يتطلب حتميّاً «قبول» العرب لهيمنة إيران، والذي يمكن فقط كسبه من خلال الميل في السياسة الخارجية الإيرانية تجاه العرب وضد إسرائيل أي استغلال «ثغرة» هزائم العرب في مواجهة إسرائيل و«مناصرة القضية الفلسطينية».
خلال الثمانينيات وأوائل التسعينيات، تطور أساس خيار إيران العربي «قليلاً» فحسب، وهو أمر مستغرب. لقد كان ذلك الأساس متجذراً في مزيج من المراجعة السياسية الإيرانية (Iranian Political Revisionism)، مبنية على إعادة تشكيل النظام في الشرق الأوسط على أساس مبادئ إسلاموية بعد سقوط الملكية وقيام الجمهورية، من أجل محاولة إنهاء الانقسام العربي-الفارسي وتمكين إيران من تحقيق طموحاتها القيادية، والاعتراف أن أمن إيران على المدى الطويل يتحقق على نحو أفضل عن طريق الصداقة مع جيرانها الدائمين من العرب والمسلمين السنّة، من خلال السعي إلى تحقيق توازن معهم باستمرار عبر تحالفات مؤقتة مع دول نائية.
وجهتا النظر الاستراتيجيتان هاتان كانتا موجودتين - بدرجات متفاوتة وبأشكال مختلفة - خلال السنوات الأخيرة من حكم الشاه. ومن المفارقات، أن الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988)، بدلاً من أن تدفع إيران نحو تفاهم استراتيجي مع إسرائيل، أدت إلى تعزيز وجهة النظر القائلة في طهران إن صداقة العرب كانت ضرورة حتمية فحسب.
الخارطة الجيوسياسية في أوائل السبعينيات
شهدت أواخر الستينيات وبداية السبعينيات ثلاثة تغييرات هائلة على الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط:
التغيير الأول، كان تحول العلاقة الاستراتيجية للقوى العظمى من الاحتواء إلى الردع، ما خلق تعايشاً تنافسياً ولكنه سلمي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. ولكن هذا الانفراج خفض أيضاً استعداد الدول العظمى للمخاطرة وترك الحلفاء في المناطق النائية مثل الشرق الأوسط أقل اطمئناناً بالتزام القوى العظمى لضمان أمنهم(4).
التغيير الثاني، كان إعلان الحكومة البريطانية في الستينيات أنها ستسحب جميع قواتها من شرق قناة السويس وتنهي سيطرتها العسكرية على الخليج «الفارسي» بحلول عام 1971. ومع كون حرب فييتنام في أوجها، كانت الولايات المتحدة ليست في موقف يسمح بتبني دور الحامي للمياه الاستراتيجية في الخليج «الفارسي»، وتركت دول المنطقة لتدافع عن أنفسها. ومنح الفراغ الناتج من انسحاب المملكة المتحدة الشاه فرصة لزيادة نفوذه ومكانته بشكل كبير في المنطقة. لقد ضغط بقوة من أجل منح إيران دور الشرطي في الخليج «الفارسي»، والذي أدى في النهاية إلى بزوغ مبدأ ريتشارد نيكسون «العمودين التوأم» (***). وكان هذا هو التطور الإقليمي الأهم والوحيد الذي عمّق الاعتماد الأمريكي على طهران وزيادة النفوذ الإيراني في واشنطن(5).
وقد تكون بذور تلك السياسة وضعت بالفعل في عام 1966، خلال زيارة قام بها ريتشارد نيكسون إلى إيران.
قضى نيكسون، الذي لم يكن له أي منصب عام في ذلك الوقت، عدة ساعات في مقابلة خاصة مع الشاه. وخلال المحادثات، جادله الشاه أن سياسات الولايات المتحدة لفرض وجود عسكري مكثف في جميع أنحاء العالم سيسبب قريباً مشاعر عدائية تجاه واشنطن. وبدلاً من ذلك، اقترح الشاه أن على الولايات المتحدة تشجيع القوى الإقليمية التي تقاسمها المصلحة أن تعزز الاستقرار الإقليمي كي يأخذ دوراً أكبر في المسائل الأمنية. ومن شأن هذا النهج أن يضمن رضا القوى الإقليمية بالقيادة العالمية للولايات المتحدة مع خلق أساس أكثر استدامة للأمن الإقليمي(6).
كون نصيحة الشاه إلى نيكسون كانت عاملاً حاسماً في قرارات نيكسون اللاحقة كرئيس يعتبر أمراً قابلاً للنقاش، ولكن فكرة «القوة الإقليمية النافذة» كانت مغروسة بشكل جيد في دوائر السياسة الخارجية لواشنطن. وكانت حجة كررها الشاه للمسؤولين الأمريكيين في مناسبات عديدة. وبحلول نهاية الستينيات، كان الشاه، الذي انتهج سياسة زيادة الاعتماد المتبادل مع الولايات المتحدة، في حاجة واشنطن أقل من حاجة أمريكا لإيران. ويعزى ذلك - جزئياً - إلى زيادة عائدات النفط الإيراني، ويعود - جزئياً أيضاً - لتوسع الولايات المتحدة المفرط في جنوب شرق آسيا. ولم يتردد الشاه في الاستفادة من هذه الميزة الجديدة(7).
هوامش المترجم:
(*) مبدأ «تحالف دول المحيط» (Periphery Doctrine): هو استراتيجية للسياسة الخارجية والعلاقات الدولية الإسرائيلية صاغها ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في أواخر الخمسينيات. ويدعو المبدأ إلى إقامة تحالفات استراتيجية وثيقة مع دول مسلمة غير عربية في الشرق الأوسط لمواجهة المعارضة الموحدة للدول العربية لوجود إسرائيل واحتمالات حدوث توسع إقليمي ناصري عروبي. واستخدم المبدأ أساساً لتوثيق علاقات إسرائيل مع تركيا، وإيران ما قبل الثورة، وإثيوبيا. الذين كانوا قلقين من احتمالات التوسع الناصري العروبي (أي الانتشار العسكري لفكرة القومية العربية) والتأثيرات السوفياتية المؤيدة للعرب في الشرق الأوسط. (العيسى).
(**) المكتشف حديثا: أي عبر البحوث والوثائق وكتب المذكرات والمقابلات الحديثة كما سيرد لاحقاً في هذه الدراسة. (العيسى).
(***) سياسة «العمودين التوأم» (Twin Pillars): هي سياسة تسليح كل من إيران والسعودية جيدا (ليكونا عمودي الأمن الخليجي) وليقوما بحماية ممر النفط أي الخليج «الفارسي» من أي تهديد خارجي راديكالي. (العيسى).
-
Hamad.aleisa@gmail.com
-المغرب