إنه أمر بالغ الأهمية، ماذا يفعلُ المثقف في وضع صعب كهذا؟ يكتب عن الموقف الأخلاقي من الحرب التي تقتل وتدمر وتُهّجرُ وتسبي وتبيد وتمحي، أم يكتب عن رؤيته الخاصة للحرب وسيناريوهاتها الدموية؟ أم يكتب عن وجهها المخجلُ فقط؟ سؤال الحرب عصي على أي مثقف، عصيٌ على الثقافة نفسها التي لا تملك المسوغات الحقيقة لمديح الحرب. وبما أن المقصود من هذا الكلام حول الحرب الدائرة رحاها في سوريا، فإن الحيرة تأخذ مجدها الذي لم تحصل عليه قط. تتحول الأسئلة من المعنى الأخلاقي الذي لا بد هو ضد أي حرب حتى لو كانت بين جيران في الحي، وصولاً الى الحرب التي تعيشها سوريا منذ نيف وعامين، ويقتل فيها السوريون كما لو أنهم ذباب هجم على بيت محمي بملايين العبوات من مبيدات الحشرات.
تتقلب الحقيقة على نار المنطق، فلا تنتج سوى تأييداً لنصرة شعب مكسور ومهان، شعب عانى الأمرّين طوال فترة حكم البعث التي تغلق هذا العام عقدها الخامس، وبدل أن تفتحه على تنمية سوريا وإدخالها الى العالم الحر، فتحته على تدمير بلد كامل بكل ما فيه من بشر وماء وهواء. ما حصل ويحصل هناك سابقة خطيرة في فهم الدولة البعثية لمعنى الدولة، أو فهم النظام لمعنى الدولة معطوفاً على فهمه لقيمة المواطن ودوره وحريته ووجوده. المؤسف في الحدث السوري، أن المثقف الغربي، المعجونة حياته ودوره، في فهمه العميق للحرية والعدالة بقي على الحياد. باستثناء أصوات قليلة مثل الصحافي الفرنسي جان دانيال، بقيت المقتلة السورية المستمرة حتى استخدام الأسلحة الكيميائية، بعيدة نسبياً عن التنظير الأخلاقي الطهراني الغربي الذي يتخذ من الطوباوية الكاثوليكية منطلقاً لمواقفه الإنسانية، فالمثقف الغربي على أهمية ما يصدر عنه، في هكذا حالات يعبر عن ذلك المنحى العميق الذي سببه التحول الأوروبي نحو الحرية في التفكير والرأي منذ القرن السادس عشر وصولاً الى الثورة الفرنسية حتى إرساء الفكر الليبرالي في بدايات القرن المنصرم.
والحق أن المثقف الغربي لم يواجه الحرب سوى منقسماً على ذاته بين الخلفية الأخلاقية التي ترفض العنف حكماً، والتربية الكولونيالية القائمة أساساً على انتزاع حقوق الآخرين وسبيها ونهبها والتنكيل بالشعوب الأخرى من منطلق نقاط القوة والضعف. هكذا حصل في كافة الحروب التي شهدها العالم، بما فيها الحروب الأوروبية نفسها، تلك الحروب التي غيرت وجه العالم. لهذا كان النقاش الفرنسي يوم اتخذ القرار بإسقاط القذافي، ماذا يمكن أن نستفيد من ليبيا، الصحراء المغلقة، فيما لو أزحنا رأس النظام وبالتالي النظام برمته؟ ولئن كان رأس السلطة الفرنسية يومذاك نيكولا ساركوزي، رأس الحربة في الحرب على القذافي لقتله والتخلص منه، فإن برنار هنري ليفي الفيلسوف الفرنسي اليهودي، كان المعادل الأخلاقي والثقافي للبشاعة التي تمت بها تصفية النظام الليبي دون الاعتراض على تصفية القذافي والطريقة التي لاقاها يومذاك. بل أعتقد أن القرار كان صائباً وقتها بإزاحة شخص متخلف عقلياً، ومتهور ولا أخلاقي وشاذ عن حكم دولة، فيها ما فيها من مقدرات وثروات تجعلها دولة مميزة، وتحيل حياة شعبها الى الرخاء بدل الذل، والى البحبوحة بدل الفاقة والعوز والفقر.
غير أن الدور الذي يمكن أن يناط بالمثقف الغربي، على أهميته، لا يمكن أن يوازي الدور الذي يجب أن يضطلع به المثقف العربي. خصوصاً أن ما يحدث اليوم في عقر داره التي تحولت الى دار لإهانة الإنسان المواطن في بيته ورزقه وحياته كاملة. في هذه المسألة بالذات نجد سجالاً إنقسامياً وحاداً في العالم العربي. المثقفون العرب وعلى عادتهم منقسمون حول اتخاذ موقف من الحرب. هؤلاء أنفسهم، أي جميعاً يساهمون في مغمغة الموقف العام من أي حرب. لا يحتاجُ اتخاذ موقف من حرب كهذه الى وقت طويل. يحتاج ربما أكثر من الوقت الى وقفة مع الضمير، الضمير الذاتي لكل فرد قبل الاحتكام الى المرجعيات الأخلاقية والفكرية وربما بشكلٍ أو بآخر المرجعية السياسية والوطنية والقطرية ... إلخ.
والحق أن هذا السجال، على حدته، شهدته الحياة الثقافية الفرنسية في الأربعينيات يوم احتدم النقاش بين النخبة الثقافية الفرنسية حول الكيفية التي على الفرنسيين التي يجب أن يواجهوا فيها ألمانيا النازية وفيما بعد الأطماع السوفياتية التي كانت قد وصلت الى إحتلال الجزء الشرقي من المانيا بعد الحرب وجلست قبالة فرنسا. لكن الفرنسيون لم يختلفوا فيما بينهم حول التخلص من النازية أولاً ومواجهة الزحف الأحمر ثانياً ولم يختلفوا على غير ذلك. أما المحزن في العالم العربي اليوم، وجود نخب انطلى عليها المسار الذي قاده النظام السوري لتغيير وجهة الثورة السورية التي قام بها شعب أعزل ومضطهد من أجل حريته وكرامته الى حرب لمواجهة ( الإرهاب ) الذي أساساً هو صنيعة النظام نفسه. ولعل تجربة العراق بعد سقوط البعث الدليل الأكبر على هذا.
إن الموقف الأخلاقي والفكري، المنحاز الى جانب الشعب السوري وخياره بالتحرر من قبضة النظام البعثي. لا تزينه عبارة « انظر ألا ترى ما يحدث في البحرين « والحال أنه إن نظرت لن تجد هناك سوى مملكة مطمئنة بينما القتلى في ريف دمشق وبالآلاف.
- باريس