كان صباحاً يشبه وجهها النوراني الباسم، صباح سمعت فيه هديل يمامها، ولوحت لي أيادي نخيلها، ومرت بي أغنيات اطفالها الملائكيين والتي دخلت كل بيوت وطني ورددتها شفاهنا الصغيرة ولازالت، أغنيات انبثقت كلماتها من قيمنا النبيلة وحملت مفرداتنا، وقسمات ملامحنا. وأنا أمر بالطرقات تسلل الي صوت انثوي رخيم (ياهل المدينة علامكم ماتهرجون) ابتسمت وانا أتذكر دفء صوت صديقاتي المدينيات. رفعت بصري إلى الأعلى فرأيت الرواشين تفتح أجفانها، وترسل لي ابتسامة عذبة. كل شيء في مدينة اليمام مسربل بالسكينة والاطمئنان. أرواح لها رقة الغيم عندما يلامس سماء الله وقت بزوغ فجر ضاحك، ما اسعدني في هذا الصباح السبتمبري أنا في قلبها،قلب مدينة احتوت ثقافات عديدة وأورقت بشراً متسامحين وحضاريين يحملون في صدورهم قلوب من ندى.
تدفقت لي ملامح سيدات ازحن العتمة وفتحن بيوتهن لنور القلم والكلمات أطلت علي بيوت تفوح منها رائحة العنبر وتساءلت ترى أين كان بيت زينب مغربل؟ زينب تلك السيدة التي نثرت بذور تنوير وحلقت بالنساء بعيدا في عوالم الفكر في وقت لم يفكر احد بذلك!!
تحاول أن تبهرني أبنية عالية بنوافذ زجاجية ولكن كانت عيناي تبحثان عن حوش الأشراف، وحوش الأغوات وحوش التاجوري،وبواباتها التي حفظت حكايات أهلها فقد ضحكت معهم، وحزنت معهم واحبتهم، ورددت تسابيحهم.
مر بي رجل طويل القامة وسيم يرتدى على راسة غبانة تسللت بينها جدائل الشمس يردد (وأهل المدينة قماري ) لأرى حولي اسراب قماري غطت موسيقى تغريدها الكون.
وتأتي المساءات متتابعة وسريعة، مساءات انتظرت بين لحظاتها الحنونة نادية البوشي وقلقها على حقول الثقافة، فتقفز في ذاكرتي حواراتنا الصباحية وانا القي عليها همي على حال الترجمة، ورغبتي في نشر فكر ثقافي مجتمعي بينما تشتعل هي حبا واعيا لمثقفي ومثقفات المدينة، سمعت آهة وجع عميق تتسلل بين كلماتها وتلفني. ترقبت محيا وفاء ابنة الطيب الباسم، وفاء التي اقتسمت معي مواعيد سرد من عقيق يماني، وكأننا قررنا أنا ووفاء أن نلتقي بلا مواعيد، وتغيب وفاء وتبقى اسئلتي لهفتي إلى لقائها.
وفي مساء حالم فاحت فيه عبير ازهار جاورت بحرنا الشرقي تأتي نادية البوشي بصهيل قصائدها الفاتنة، التي تحمل فكرها هي، وعاطفتها هي، وملامح ابتسامتها، رأيت نادية مثقفة مدينية متألقة تمتلك فكرا يشي بالالهام، ليتحول المساء إلى امسية ثقافية ازدانت برأي نادية ونجاة خيري وايمان فلاتة التي نثرت كلمات لامست عشاء دافنشي ووجدت نفسي كعادتي أدير حوارا ثقافيا اجتماعيا يجمع اصواتاً من جهات الوطن (المدينة، الشرقية، جازان)، مررنا بالعمق الثقافي الذي يشغلنا، وبهموم المثقفة وحقوقها، ومعوقات ابداعها، و بالحب والرجل، والذكر، كل ذلك حدث وحولنا عوالم فن باذخة رسمتها فرشاة شعاع الدوسري، كان مشهداً جميلاً أيقظ حلمي أن تكون أمكنة الثقافة لدينا وارفة بكل أنهار الثقافة شعر وسرد ومسرح وآداب عالمية وموسيقى وفن تشكيلي وتصوير ونحت وحكايات أسلاف رائعين.
التقينا جميعا، توحدنا مع المثقفة الممتلئة بصخب الإبداع والطموح والارادة وشددنا على يد المبدعة التي آمنت بأهمية الثقافة ففتحت لها ولأهلها نوافذ بلورية.
في المساء التالي ارتعشت وأنا أرتب حقائبي نظرت من نافذة الفندق رأيت أيادي بثينة وبدرية ومدى* تلوح لي
ولاحت لي عيون شهد وطيبة و هيفاء* *
اللواتي حيين معي ابداع عزيز ضياء* * *
وسرن معي إلى غابة (قزم) استريد ليندغرين.
حملت حقائبي وأنا أهمس :
(سلام يا أ هل المدينة
واهل العوالي
والبرزة واللي وراها
حلي ومال)
وحلقت (مدورات) في السماء.
***
زيارتي للمدينة المنورة في رحلة احتفاء مجموعة ملهمات سعوديات بالمدينة المنورة كعاصمة الثقافة الاسلامية 2013 - 28 شوال 1434 الموافق 4 سبتمبر 2013
* معلمات بمدارس طيبة المرحلة المتوسطة والتي اقمت فيها ورشة الترجمة الأدبية.
** طالبات مدارس طيبة اللواتي شاركن في ورشة الترجمة الأدبية.
* **كاتب ومترجم سعودي من رواد الادباء السعوديين ولد في المدينة المنورة .
- الدمام