Culture Magazine Saturday  21/09/2013 G Issue 412
فضاءات
السبت 15 ,ذو القعدة 1434   العدد  412
 
طريق الحرير وخيط الحرير الممتد
المملكة العربية السعودية ضيف الشرف في معرض بكين الدولي للكتاب 2013
د. أشجان هندي

 

في معرض الكتاب الدولي الذي أُقيم مؤخرًا في العاصمة الصينية بكين، كان لي شرف المشاركة مع وفد المملكة، التي تُعتبر أول دولة عربية وإسلامية تشارك ضيف شرف في هذا المعرض. يُسجَّل للمملكة هذا الحضور الاستثنائي الذكي في هذه الدورة من دورات المعرض، كما تُحسب لوزارة التعليم العالي السعودية جهودها الكبيرة في الوصول إلى معرض بكين بصورة مُميّزة، سجلت حضوراً لافتاً. منذ لحظة الوصول إلى مطار بكين استُقبلنا بحفاوة؛ إذ عنيت سفارة خادم الحرمين الشريفين ببكين، ممثلة في الملحقية الثقافية، بحسن الاستقبال والاهتمام بالوفد السعودي المشارك على مدار الأربع والعشرين ساعة. وأبدعت وزارة التعليم العالي - وعلى رأسها معالي وزير التعليم العالي - في هندسة وتخطيط وتنسيق برنامج وفعاليات المشاركة السعودية، وفي الحرص على راحة المشاركين. كما أبدع سعادة الملحق الثقافي والعاملون بالملحقية السعودية ببكين في حُسن التنظيم، فضلاً عن العناية بكل ما يخص الوفد السعودي المشارك دون كلل أو ملل.

محاضرات وندوات علميّة وأدبيّة سعودية صينية مشتركة تقام يوميًا تحت سقف المعرض، وجناح سعودي باذخ بما يحتويه من كتب ومؤلفات سعودية، تُرجم بعضها إلى الصينية، ومعروضات وصور وأزياء من كل مناطق المملكة، فضلاً عن كرم استقبال الجناح السعودي لضيوفه المتزايدين من الزوار الصينيين، خاصة في الخيمة التي أُقيمت في الجناح، والتي يصدح فيها صوت الربابة، وتتمايل فيها رائحة القهوة كل صباح، وعازف الربابة يُفاجئ الحضور في أحد الصباحات بغناء كلمات صينية ترحيبية على وقع صوت الربابة الشجي، في تعاون فنّي سعودي- صيني بجهود سعودية. لا تكاد تنتهي المحاضرات حتى تبدأ النقاشات والحوارات بين الضيوف والمشاركين من الجانبين؛ في محاولة سعودية صينية مشتركة للتعرف أكثر على الآخر، والوصول إليه بشكل مباشر بعيدًا عن الصورة التي تنقل عنه عبر وسائط إعلامية أو سواها، فتأتي أحيانًا مغلوطة أو مشوّشة وغير واضحة؛ وهذا ما يجعل قيمة مثل هذه المشاركات في معارض الكتب تتضاعف؛ وذلك لقدرتها على الوصول المدروس والمنظّم والسريع إلى الآخر دون وسائط ولا حُجُب وأستار. محاضرات تتحدث عن تاريخ العلاقات القديمة بين البلدين الممتدة بجذورها إلى الحاضر، ومحاضرات وندوات علمية وأدبية من أجمل ما حققته أنها جمعت بين مشاركين من البلدين، ولم تقتصر على السعوديين فقط؛ الأمر الذي فتح المجال للتواصل عبر الجوانب المشتركة بين الطرفين.

ففي المحاضرات العلمية التي تحدثت عن تاريخ الأدوية مثلاً عُقدت المقارنات بين طرق التداوي ومكونات الأدوية عند الطرفين. وفي المحاضرات الأدبية شارك أساتذة من الجامعات الصينية، يتحدثون العربية بموضوعات عن ملامح أدبية وثقافية تنتظم أدب البلدين. تم تبادل بطاقات التعارف مع الأصدقاء في الصين والوعد باستمرارية التواصل العلمي والأدبي لأغراض الترجمة من اللغتين وإليهما، والتعرُّف أكثر على أدب وثقافة البلدين، وهذه أيضًا من المزايا التي تُسهم مثل هذه المشاركات في توثيق عُراها.

الصينيون من المترجمين وبعض المشاركين في الندوات يتحدثون العربية الفصحى، وهذا ما أدهشنا، ودفعنا إلى الحديث بها حتى مع بعضنا البعض. وهكذا تحدثنا الفصحى في بكين وإن طالت المسافة، وطلبناها ولو في الصين. في المقابل، كانت تنقصنا لغة التواصل نحن والصينيين من غير الناطقين بالعربية ولا بغيرها من اللغات العالمية المتصدّرة؛ فاكتفينا بلغة الإشارة (العالمية)، وببعض الهمهمات التي تكاد تصنع لغة جديدة مشتركة بين الجانبين. فالأهم أن الرغبة في التواصل موجودة لدى الطرفين، ولكن الفرق يكمن في أن الصبر والخبرة السعودية المنفتحة على الآخر، المتمثلة في الاستعانة بلغات أخرى، تطول في مثل تلك المحاولات من التواصل عن طريق اللغة، في حين يقصر الصبر الصيني سريعًا؛ إذ يعود الصينيون إلى الحديث بلغتهم التي حاول بعضنا تعلُّم شيء من مفرداتها حرصًا على استمرارية التواصل. داخل المعرض ساعدنا في بعض تلك الحوارات مترجمون صينيون متمكنون وشباب مميّزون من الطلبة السعوديين المبتعثين للدراسة في الصين، الذين يتحدثون الصينية جيدًا، إضافة إلى مجموعة أخرى من طالبات وطلبة الجامعات الصينية الذين يدرسون العربية، ويرغبون في الحصول على بعثات تعليمية إلى المملكة. ولا عجب في الإقبال على تعلم العربية من قبل الصينيين؛ فكما حدثنا أحد الصينيين إن من يتعلم العربية هناك يحصل على وظيفة مرموقة بمرتّب كبير، وكذلك الحال مع من يتعلم لغة أخرى من اللغات التي تتصدر المشهد العالمي. ذكرني ذلك بأيام بعثتي الدراسية إلى لندن حين كان الطلبة الصينيون معنا في الجامعة، وغيرهم من الصينيين المنتشرين في مدينة لندن، في (تشاينا تاون) وغيرها، يستبسلون استبسالاً لتعلّم اللغة الإنجليزية، رغم أن عددًا كبيرًا منهم لم يكن يرغب في العودة إلى الصين مرة أخرى.

في كل يوم من أيام المشاركة في المعرض كان اليقين يزداد بقدرة العلم والثقافة والأدب والفن على جعل خيط الحرير ممتدًا بين البلدين رغم رهافته. فطريق الحرير التجاري الذي امتد لفترة من الزمن بين الصين والجزيرة العربية كان يتصل كل يوم فكريًا وثقافيًا وفنيًا تحت سقف المعرض. طريق الحرير أشار إليه الصينيون كثيرًا في مشاركاتهم ومداخلاتهم؛ فهو رمز يعتزون به، وتتصدّر صورة تخطيطية كبيرة له مدخل سوق لبيع الحرير، يُعدّ من أهم ملامح بكين السياحية. لفتت انتباهي كلمة (جدة) مكتوبة باللغة الإنجليزية، ومُحدد موقعها على تلك الخريطة؛ حيث كانت قوافل الحرير الصينية تمر بها عبر الطريق التجاري الطويل. في ذلك السوق يرى السائح مراحل نمو دودة الحرير الصينية الرشيقة، ويستطيع لمسها أيضًا، ولا أقل من أن يختم جولته بشراء غطاء سرير مصنوع من الحرير الصيني الخالص أو أنواع من الملابس الصينية المنتشرة في الأسواق السعودية، وغيرها من الأسواق حول العالم.

وللفنون نصيب من مشاركة المملكة بمعرض بكين؛ إذ عاش الصينيون معنا ليلة سعودية حافلة بالعروض الفلكلورية المتنوعة من كافة أرجاء المملكة مترامية الأطراف، وصفّقوا طويلاً، وهكذا هو حال الفن والأدب، يجمع ولا يُفرِّق. صفّق الصينيون وصفّقنا معهم للإبداع ممثّلاً في لوحات فنية من الغناء والرقص الفلكلوري السعودي. وأدهش الحاضرين من السعوديين والصينيين رجل متوسط العمر من الفرقة الفلكلورية المشاركة، تحدث إلى الحضور بكلمات قليلة باللغة الصينية، ثم أرسل قبلة في الهواء؛ فضجّ المسرح تصفيقًا. وهكذا هو حال اللغة في قدرتها على الوصول للآخر على نحو أكثر حميمية وذكاءً وملامسة للروح؛ لذا فقد أحسنت المملكة ممثلة بوزارة التعليم العالي بإيفاد الطلبة السعوديين للدراسة في الصين، وليتها تستمر في زيادة أعدادهم، وهذا المأمول منها؛ فتعلّم اللغة واكتساب الخبرة والاطلاع عن قرب على ثقافة الآخر من أهم الأهداف التي تقف خلف مشروع الابتعاث الرائد الذي أطلقه خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله.

في اليوم التالي لنهاية مشاركتنا في المعرض اغتنمنا فرصة عظيمة لزيارة سور الصين العظيم، إحدى عجائب الدنيا السبع؛ والصين بلد العجائب. سور على هيئة طريق طويل، أبعد من مدّ البصر، يتلوّى كأفعى أسطورية بين الجبال الشاهقة، ذلك هو سور الصين. رهبة الصنع والإنجاز البشري الأسطوري يلفّه جلال الصمت الموغل في جذور التاريخ المعتّق بالأزمنة السحيقة، ذلك هو سور الصين. أساطير مزركشة بالتنين والأفاعي والكتابات الصينية المنمنمة بدقة والملوّنة بألوان صارخة، وسحر يختبئ بين الجبال العالية، ذلك هو سور الصين. حكايا وأسرار وقصص تتحدث عن قدرة الإنسان حين يصرُّ ويكون لديه هدف على صنع العجائب، ذلك هو سور الصين العظيم. ولأن الصين بلد العجائب فقد عجبت كثيرًا حين رغبت في الكتابة إلى الأصدقاء في المملكة عن المعرض عبر (تويتر)، حين علمت ألا (تويتر) في الصين، ولا غيره من شبكات التواصل الاجتماعي الأخرى التي تنتشر عبر الفضاء الإلكتروني! وهذه عجيبة صينية جديدة؛ فالصين التي تصنع التقنية الإلكترونية وتصدّرها إلى الخارج لا تستخدمها في الداخل! ولعلّ للصينيين في ذلك حكمة، لا يعلمها إلا هم؛ فأهل الصين أدرى بشعاب سورها العجائبي العالي مُحكم الصُنع.

ودَّعنا الصين جوًّا مرة أخرى في طريق العودة إلى المملكة. ولحسن الحظ فقد حال الظلام الدامس خارج الطائرة بيني وبين رؤية الجبال العملاقة المتراصّة في صمت مُريب. وصلنا المملكة وقد أشرق وبان نور النهار، نحمل القصص والأخبار، والذكريات الجميلة عن مشاركة المملكة المميزة في معرض بكين الدولي للكتاب 2013. وسأفرد لمشاهداتي في الصين مقالاً آخر؛ إذ لا يتسع المجال هنا للمزيد من المشاهدات والأخبار.

سبتمبر 2013م - جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة