Culture Magazine Saturday  21/09/2013 G Issue 412
فضاءات
السبت 15 ,ذو القعدة 1434   العدد  412
 
سيميائية الأهواء
مصطلح قار.. ودلالات متفلتة
أ.د. خالد بن محمد الجديع

 

عانى الوسط النقدي زمناً ليس بالقصير من فوضى المصطلحات التي أدخلت كثيراً من المفاهيم في ضبابية اشتكى منها جمع ممن يتعاطى مع المناهج النقدية الحديثة، وفي ظل هذه الفوضى تنادى كثيرٌ من النقّاد إلى ضبط التعامل مع الكلمة الاصطلاحية المترجمة، وإلى احترام الدرس النقدي بعدم الانطلاق من لحظة الصفر عند التعامل مع اللفظة الطارئة على العربية، مؤكدين على ضرورة أن يقرأ النقاد لأقرانهم لتُعرف الأسبقية، وأن يتم التخلص من حظوظ النفس بادعاء السبق في ترجمة هذه الآلية الغربية أو تلك.

وقد أسهمت هذه الدعوة إلى حد كبير في ردم الهوة بين النقاد، فأضحت مجموعة من المفاهيم النقدية قارَّة في استعمالها العربي، وإذا كان كلا طرفي قصد الأمور ذميماً، فإني لا أتبنى أياً من الرأيين لا الفوضى ولا الأخذ بمصطلح السابق والسير عليه دون تمحيص، وإنما يحسن فحص الترجمة، فإن كانت سليمة فينبغي الأخذ بها، وعدم اللجوء إلى مرادفات قد تربك ولا تضيف شيئاً، وإن بدت الترجمة محتوية على خطل بيِّن فيجب التدخل لتصحيحه.

قدمت بهذه المقدمة من أجل الدخول إلى فرع من فروع السيميائية يعرف بسيميائية الأهواء، هذا المجال الذي اتفق النقاد بشكل عجيب على إطلاق هذا الاسم عليه دون أي خلاف يذكر بينهم على الرغم مما توحي به الكلمة من دلالات تحرف مسار القصد وتغير مناطق الفحص.

وسأقف في هذه المقالة عند جهود ثلاثة من النقاد المهتمين بهذه الزاوية من الدرس السيميائي هم: سعيد بنكراد ومحمد الداهي وجميل حمداوي. بدأ الأول منهم بترجمة عمل جليل اشترك في تأليفه ألجيراداس.ج. غريماس وجاك فونتني وحاولا فيه تلمس الجانب الإبستيمولوجي للأهواء (حسب ترجمة بنكراد) ثم عقدا فصلاً حول البخل عالجا فيه التمظهرات المعجمية والدلالية له من خلال مدونة مختارة، وتوقفا عند بناء الأنموذج من الناحية السيميائية، وفي مزيد من الإيضاح أردفاه بفصل آخر عن الغيرة متناولين في نص مختار البناء التركيبي له ومستويات التخطيب فيه.

وعند ترجمة منجزهما للعربية وضع بنكراد اسم (سيميائية الأهواء) على صدر العمل إيذاناً بأن هذا الفرع من السيميائية ينبغي أن يحمل هذا الاسم، وتأكيداً على أن ترجمة عنوان غريماس وفونتيني هي التي اختارها.

ولم يشذ عن هذه الترجمة الداهي وحمداوي بل سايراه على ما اختار، وتابعهما كل من قرأت له في هذا الحقل من العلم، وقبل الدخول إلى عالم تعاملهم مع الجانب الأهوائي (حسب ترجمتهم) أقف غير متردد عند هذه الترجمة التي لاقت إطباقاً غريباً عليها، فقد قرأت منجز غريماس وفونتيني وفق ترجمة بنكراد فألفيت بعد قراءته أكثر من مرة أن الترجمة غير صحيحة، أو على أقل تقدير غير دقيقة.

ومع إدراكي الكبير أن مثل هذا الحكم مني لا ينبغي أن يطلق على عواهنه لا سيما أن النقاد الثلاثة لهم باع طويل ومراس شديد مع المفاهيم والآليات والمصطحات النقدية، لكني آثرت أن أتتبع النهر من منبعه إلى مصبه - كما يقولون - لفحص هذا المصطلح المنزاح عن دلالته الأصلية.

في العربية تشير كلمة الهوى إلى دلالة سلبية، ولذا قال الله عز وجل عن نبيه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى}، وقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}، وجمعها أهواء يحمل دلالات أقسى، فإذا أراد المرء أن يصف قوماً تنكبوا صراط العدل قال: هم أصحاب أهواء، وفي القرآن: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ} ولك أن تتخيل حجم ما شحنت به هذه الكلمة من معانٍ مذمومة، يمكن أن يدخل تحتها: عدم الإنصاف والأنانية والفجور والتناقض... إلخ.. ولذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن اتباع الهوى لأنه يورد المهالك، فقال: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» رواه الترمذي، ولا يكاد يخرج ما جاء من أبيات شعرية وحكم عربية عن هذا المعنى، ولذلك قال الحكماء: آفة الرأي الهوى.

إن العواطف والانفعالات التي أشار إليها غريماس وفونتني داخل هذا اللون أوسع بكثير، ولا يستطيع المصطلح الذي ترجمه النقّاد الثلاثة - على ما فيه من إشكال - أن يضم تحت عباءته إلا نزراً يسيراً من المعاني التي وضع غريماس وفونتيني دائرتها، ففي تلك الدائرة نجد حزمة من الانفعالات البشرية، يُصنف بعضها في مربع السلب، وبعضها في مربع الإيجاب، منها: الحب، الإيثار، الحقد، الطموح، الغيرة، البخل، الكبرياء، الإعجاب، الكراهية، الندم... إلخ.

أفيصح أن نقول لمن يؤثر غيره على نفسه: هو صاحب هوى، إننا نذمه بهذا القول مع أن صنيعه مما يحمد، هذا بالإضافة إلى معان محايدة تدخل ضمن المجموعة لا تصنف لا في خانة الاستحسان ولا في موضع الاستهجان.

لقد عدتُ إلى المصطلح الأصلي في الفرنسية، وهو (sémiotique des passions) فألفيت أن اللفظة الثانية القرينة بالسميائية (passions) تعطي في القواميس معنى الشَّغَف، وهو معنى محايد، وعندما لا نغرق في الحرفية يمكن أن تدل العبارة كاملة على سيميائية المشاعر، وهو المصطلح الذي أقترح إطلاقه على هذا الفرع من المعرفة، ولا تختلف رحلة المصطلح إلى الإنجليزية عن ذلك، فهو فيها (Semiotics passions).

تبدي ثيمات العواطف إذا كانت جامحة أثرها على جسد صاحبها قبل أن تظهر على الورق، فالتغيرات التي تبدو على الوجه ما هي إلا علامة سيميائية على انفعال من نوع ما، ولا تستطيع النفوس السوية إلا أن تُظهِر دون قصد هذه المعالم الإشارية على تقاسيم محياها، في حين أن المرء إذا تحول إلى مسخ مراوغ فستبدأ هذه العلامات بالاضمحلال، فمن الممكن أن يكذب على الذي أمامه دون أن تطرف له عين ولا يتغير له شكل حتى لو علم أن مستمعه يعلم بكذبه، وتلك صفة نقص ودناءة يستحسنها البعض معجبين بمن لا تبدو عليه هذه العلامات ولا يبين في وجهه شيء، وغافلين عن أن الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا كره شيئاً عُرِف في وجهه» رواه البخاري.

حاول محمد الداهي أن يجرب المراس مع هذا المجال فكتب دراستين نشرهما في كتابه (سيميائية السرد: بحث في الوجود السيميائي المتجانس) كان عنوان الأولى منهما (تجليات الأهواء في رواية الضوء الهارب لمحمد برادة)، وعنوان الثانية (مظاهر البعد الانفعالي في رواية الحي الخلفي لمحمد زفزاف)، وقد أظهر الداهي أسلحة حداداً في التعامل مع هاتين المدونتين لا تملك إلا أن تعجب بها، وبانعتاقه من ربقة النمطية في التحليل.

لم تكن معالجته مدرسية ولا كانت حذو القذة بالقذة، وإنما أكدت بالإضافة إلى تقنين أدواتها وإحكام منهجياتها على ما يلي:

1- وجوب مراعاة الجانب الشعوري في المسار العاملي، فإذا كان العامل يعمل فإنه يحس ويشعر، ومن هنا ينبغي أن يكون العامل الحكائي مرفقاً بالعامل الحاس الذي يستطيع فهم القيم وتقديرها ليتحقق الأثر الشعوري.

2- تؤخذ ردود الفعل الجسدية مأخذ الجد لكونها تجسد ما ينتاب الذات من أحاسيس ومشاعر، وذلك على نحو احمرار الوجه وشحوبه، واصطكاك الأسنان وارتعاد الفرائص.

3- تتكون الخطاطة الاستهوائية المقننة من مراحل تبين تدرج الهوى من المستوى السطحي إلى المستوى العميق. (انظر: سيميائية السرد ص104).

وتفقد الدراستان اللتان أنجزهما جميل حمداوي في هذا المجال كثيراً من الرواء النقدي الذي تهبه الشخصية الناقدة لمنجزها، ففي دراسته التي عنوانها (سيميائية الاستهواء الإرهابي في الرواية العربية السعودية: رواية «الإرهابي 20» لعبد الله ثابت نموذجاً) يمضي أكثر من نصف العمل في حديث نظري سبقه إليه د.محمد الداهي (انظر: سيميائية السرد ص76-113) ومع ذلك لا يحيل إلى الداهي، ويوهم القارئ أنه السابق إلى هذا الكلام!!.

وعندما يختار الثيمات المشاعرية يسير بعدها على خطاطة سردية نمطية لا تختلف عن البرنامج السردي القديم الذي تبناه غريماس سوى في وضع الثيمات محل الذوات!، وإذا كانت هذه الدراسة قد نشرها المعهد العربي للبحوث والدراسات الإستراتيجية في 14-5-2011م، فإن حمداوي يتقدم بها أيضاً على أنها نتاج لم يسبق نشره ليشارك بها في مؤتمر الأدب في مواجهة الإرهاب الذي عُقد في جامعة الإمام محمد بن سعود في 7-2-2012م!!

وقل مثل هذا الكلام عن دراسته الأخرى التي عنوانها : (سيميوطيقيا الأهواء في القصة القصيرة جدا: قصة «سريالية» لحسن علي البطران نموذجاً) المنشورة في 5-10-2011م، لك أن تتخيل حجم الجرأة الغريبة التي يتمتع بها حمداوي حينما تراه يورد في صدر هذه الدراسة كثيراً مما في الدراسة السابقة بنصه ودون الإشارة إلى أن هذا الكلام سبق إيراده، وأدعو القارئ إلى العودة للدراستين ليرى صدق ذلك، وسأقتطف أنموذجاً من كلامه جاء بنصه في الدراستين كلتيهما يقول:

«ويمكن الحديث أيضاً عن آن إينو Anne Hénault التي أصدرت كتاب: السلطة بوصفها هوى، وقد ميزت فيه بين سيميائية الهوى وسيميائية العمل، حيث تقول إينو: «مما لاشك فيه أن كريماص يعطي الأولوية للعمل (ليس فقط على مستوى تاريخ أفكاره، بل كذلك على المستوى الإبستمولوجي» في تمفصل سيميائية العمل وسيميائية الهوى، وذلك لأن تحليل كفاية الذات الإبسيتمولوجية الفاعلة هو الذي يفضي إلى قضية الهوى أو قضية الأهواء، وقد اختارت إينو على مستوى التطبيق أن تدرس يوميات أرنو دادلي R.A.D’Adilly، وذلك عبر الفترة الممتدة زمنياً من سنة 1614 إلى سنة 1632م، ويبلغ عدد صفحاتها (1200) صفحة.

هذا، وقد اختارت إينو أن تبحث عن سيميائية الأهواء عبر دراسة تطورية دياكرونية لمختلف الفواعل التاريخية، وهي تتفاعل مع الأحداث، مع رصد مختلف الردود الانفعالية والاستهوائية تجاه الحكم والسلطة والمجتمع، وذلك انطلاقاً من تصورات ورؤى سوسيولوجية وأنتروبولوجية.

وقد استخلصت إينو من دراسة حالة السلطة عبر ثنائية الجذب والقوة إلى أن هناك ثلاث حالات سيميائية للأهواء: الانتقال من حالة الحبور والتقدير إلى حالة الخيبة والفشل في إقرار السلم، مروراً بحالة التنبيه الشرعي وفقدان الهيبة.

وعليه، فقد ركزت هذه الكتب المذكورة على سيميائية الأهواء تركيباً ودلالة، سطحاً وعمقاً، لساناً وكلاماً، وذلك بالاعتماد على خطابات متنوعة: معجمية، وأدبية، وسياسية، واجتماعية، وأخلاقية... وكل ذلك من أجل البحث عن المعنى وآثاره، والتقعيد لبنية الخطاب الاستهوائي كما يتجلى في الخطابات المدروسة المنجزة».

هذا جزء اقتطفته من كلام حمداوي المعاد تكراره بنصه في دراستين مختلفتين! ألهذه الدرجة يبلغ تهوينه من شأن القارئ، ويظن أنه لا يمكن أن يكتشف مثل هذا الصنيع غير العلمي! لن أطيل الوقوف مع مشكلات الأمانة العلمية التي بدت في دراستي حمداوي، فهي ليست موضوعنا الأساس في هذه المقالة، وسأترك كثيراً من الأمور لفطنة القارئ، ما يهمني هو الإشارة إلى أن حمداوي خرج في معالجته من نمطية إلى نمطية، وكان الأجدى عند تلمس الموضوعة المشاعرية أن يُنظر إليها على أنها علامة سيميائية تستحق التنشيط بوصفها بياضاً ينبغي ملؤه، وأحيل هنا إلى السيميائية التأويلية التي يتبناها أمبرتو إيكو، فأقترح أن تردم الفجوة بين الحقلين، أو في أضعف مستوى نحاول في معالجتنا الأهوائية - حسب ترجمتهم - فتح كوة باتجاه السيميائية التأويلية، فهي التي ستضمن لنا التجافي عن الخطاطات الثابتة المملة.

وسأسير - بإذن الله - على هذا النهج في دراستين قادمتين أنوي إنجازهما بشأن ما أسميه سيميائية المشاعر، إحداهما ستكون خاصة بالشعر أعالج فيها نتاج المشاعر المتناقضة التي أحس بها ديك الجن قبل قتل محبوبته ورد وبعدها، والأخرى تتوجه صوب الرسالة الهزلية التي كتبها ابن زيدون مضمناً إياها مشاعر التنافس والتحسر والسخرية، فعسى أن أوفق في ذلك.

- الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة