«صراع الإنسان ضد السلطة هو بالدرجة الأولى صراع الذاكرة ضد النسيان»
ميلان كونديرا
* تنتهي لحظاتُ الرعب التي عاشتها ليلى وجدّتها بظهور الحطّاب «المخلّص»، وتشيع أجواء الفرحة في نهاية القصةِ احتفالاً بالخلاص، وبنظرةٍ تحليليةٍ للقصة البسيطة يمكننا القول: إن الحطّاب كان شخصيةً ثانويةً في مقابل الشخصيتين الأخرى الرئيستين «ليلى والذئب»، لكنه بعد تخليص البطلة يرقى إلى مصاف الأبطال ويصير كل ما عداه ثانوياً وبخاصةٍ أن الانفراجة بعد العقدة جاءت بفأسه التي أخرجت ليلى من الظلمات إلى النور!
* لا يختلف الأمرُ كثيراً في السيرِ الشعبية التي ازدهرتْ في عصور الانحطاط، وكأنها تعكس رغبةً في الهربِ من القهر بانتظار «المخلّص» الفرد كما يتجسّد في سيرة «علي الزيبق» في صراعه مع الظلم الذي تمثل في شخصية «دليلة»، أو في شخصية «الفارس الملثم» ونزاعه مع «كامل الأوصاف» في مسلسل الغرباءِ الذي ليس من السّهل إسقاطه من الذاكرة الطفلية!
* تبدو نقطة التشابه بين ما ورد أعلاه من قصصٍ متركزًة في أنّ»البطل» يخرج بفعلٍ ما من الظل لتصبحَ الأضواء مسلّطةً عليه وكأنه في مسرحية الممثّل الواحد، ويحدث -للمفارقة- أن تتشكلَ الأنظمةُ المستبدة بالطريقةِ ذاتها، حين يعتلي سدّة الحكمِ أشخاصٌ مثل هتلر وموسوليني وبينوشيه وحافظ الأسد، وتتحول الدولة إلى فرد!
* كل الأسماء السابقة نسفت شكل الدولة قبلها و»نسخت» ما سبقها من أنظمةٍ لتعيدَ خلق الدولة من جديدٍ بما يتناسب مع «مواصفاتها القياسية»، وتعديل قياسات الدولة بالتالي لتتناسبَ مع حجم القائدِ الفريد، ولعلّ أبرزَ حادثةٍ تمثّل هذا في العصرِ الحديثِ جداً تغييرُ الدستور السوري في أقلَ من ربع ساعة ليتناسبَ مع عمر الوريث الجديد!
* يُروى عن صلاحِ الدين أنّه عندما دخل مصرَ عمد إلى عزلِ الرجالِ الفاطميين عن نسائهم بعد أن حبسهم لسنواتٍ طويلةٍ ما أدّى إلى انقراضهم، وأنّه حرق كتب الفاطميين في مكتبةِ دار الحكمة التي كانت تحوي وثائق ومخطوطاتٍ هامة تسهّل التأريخ لتلك الفترة من تاريخ مصر في عهد الفاطميين -بحسب ما ذكره عددٌ من الأساتذةِ- واستطاع بذلك أن يمحوَ هذا التاريخ من أذهان المصريين!
* إن صحت الروايةُ السابقة فلن يكون هنالك فرقٌ كبيرٌ بين ما فعله «الناصر» صلاح الدين مع مخالفيه، وما فعله «الرمز» حافظ الأسد بمعارضيه من الإسلاميين الذين ما يزال سجن تدمر يشهد على المجازر التي ارتكبت بحقهم بأشكال وصورٍ يعجز اللسان عن وصفها (أرّخ بعضها مصطفى خليفة في كتابه القوقعة الصادر عن دار الآداب)، أو ما فعله ستالين في احتجازه لزوجات معارضيه المتهمين بالخيانة العظمى كرهائنَ وكوسيلةٍ للضغط على الأزواج ليسلموا أنفسهم، أو ما فعله هتلر في عمليةٍ أطلق عليها «ليلة السكاكين الطويلة أو عملية الطائر الطنان» التي نُفذت فيها سلسلةٌ من الإعدامات السياسية التي كان أغلب ضحاياها من كتيبة العاصفة أو القمصان البنية التي كانت مسانداً رئيساً لهتلر ثم تخلص منها ببرودة أعصاب!
* كل هذه الأنظمة بكل ممارساتها القمعية ومحاولاتها طمس هوية الدولة قبل وصولها إلى الحكم، ولعلّ تغييرَ العلم أحد المظاهر التي تنبئ ببدايةٍ جديدةٍ بغضّ النظر عن طبيعةِ هذه المرحلةِ ومدى نجاحها، تحاول إيصالَ رسائلَ إلى الشعبِ بأنّها مصدرُ أمانِه وأنّها هي التي تحييه وتميته، بحيث ينسى كيف كانت حياته قبلها!
* تقول مارجريت آتوود: «النظامُ الشموليُ مسرحيٌ دائماً، فمثلُه مثلُ المسرحِ يستند كثيراً إلى الوهم فتطالعُك واجهاتٌ ضخمةٌ بينما تخفي الستائرُ القاذوراتِ والخيوطَ التي تحرّك الأشياء»، لكن ما يعزينا أنّه قد ظهرت كتاباتٌ إلى النورِ تكشف لنا هذا الوهم وتبيّن القاذورات التي يرتكز إليها كل نظامٍ قمعيٍ، ولست أعني ما يسمى بأدبِ السجونِ من الروايات التي قد تبالغ في إظهار شخصية المعتقل على أنه بطل بينما تحاول السير الذاتية لمعتقلين سابقين أن تكونَ أكثر واقعيةً، فترصد جوانب ضعف المعتقل قبل قوته، كما في «القوقعة» لمصطفى خليفة أو» بالخلاص يا شباب» لياسين الحاج صالح، وقد اعتقل كل منهما لمدة تتراوح بين ثلاثةَ عشرَ إلى ستةَ عشرَ عاماً، وعلى الرغم من أنّه يمكن ملاحظةُ الاختلافِ الواضحِ بينهما في التعاطي مع تجربةِ السجنِ المريرةِ، فقد رصد كلٌ منهما تجربتَه بشفافيةٍ ووضوحٍ!
* تُرى، لو أُكمِلت حكايةُ «ليلى والذئب» لتصورَ «ما بعد النجاة» هل كنا سنشهدُ الحطّابَ يعتلي جذعَ شجرةٍ ليلقي «البيان رقم واحد؟!!
- القاهرة