مثلما هو تيه الهُويّة المتردّدة والمتوزّعة بين الانتساب للدولة، أو الانتساب للديانة، أو الانتساب لدم مزعوم، هكذا حال الثقافات العربيّة يتنازعها هذا التوزيع والتردّد في أيّ مرحلة تقلبيّة أو اضطرابات سياسيّة، وأزعم أنّ مردّ ذلك عائدٌ للجمع والخلط بين الدولة والدين والعرق؛ ولئن كان الدين الإسلامي قد حسم نظريّاً مسألة الفصل بين التقوى والعرق منذ زمن بعيد، إلاّ أنّ الممارسات الواقعية لم تتطابق النظريّة، وكان طبيعيّاً في ظلّ غياب الوعي السياسي أن تنقل الدول العربية المعاصرة مسألة الجمع والخلط بين (العرق والدين) إضافة لمفهوم الدولة الجديد والسياسة، ذلك لأنّ الفصل لم ولن يكون في مصلحة الطبقة التي آلت إليها الأمور، لأنّ الفصل بينهم أساس تأهيلي من أسس الدولة التداوليّة، والجمع بينهم ضمانة لعدم التداول الطبيعيّ، ممّا يفتح المجال للعنف والانقلابات والثورات لتعاقب السياسة عندما يتمّ تعطيل التداولية.
مَنْ أنتَ «الآن وهنا»؟ هذان العدوّان بين قوسين ضيّقتين سنديانتين.
بينما هذا الذي يُدعى الشرق الأوسط وبلاد العرب نشوان في التيه، أو وراء ساقية يظلّ الغرب يردّد أغنيته في مدارها: «العالم قرية واحدة وَلِيْ خيراتُهَا «؛ أيّ محو للإنسان أن يكون العالم قرية واحدة! وكم لأغنيته النشاز أتباعٌ أصداءٌ «هُنا والآن». إنْ قرأتَ مثلاً كتابات التائهين سَمِعتَ عبر كلماتهم المكتوبة، وآرائهِ المنكوبة صدى أغنية «العالم قرية»، أو اطّلعت على مواقف الذين لم يجدوا طريقة أن يعارضوا ديكتاتوريّاتهم إلاّ إن وقفوا في طابور أمريكا؛ ألا تقدرُ أنْ تُعارضَ جلاّدكَ دونَ أن تقعدَ على حضن هذه المجرمة.
* أين أحمد الجلبي، والجوقة التي أدخلت الأمريكان العراق؟! وهؤلاء الجلبيين السوريين إلى أين تأخذهم تبعيّتهم وهم أتباع وأشتات، تحسبهم جمعاً وهم فرادى.
هل تقرأ «الآن» كلماتي؟ .. هل تسمعني؟! «هُنا»، أيْ، «الآن»: لم يعُد الكلام على هواك أيّها المثقّف العربيّ التائه في ملكوت أمريكا وأوهام الحريّة. «الآن وهنا» عندَ هذا الحبر نفترقُ، أليسَ كذلك؟
حسناً، أللهُ معكَ أنتَ ورهاناتكَ أيّها العربّيُ الغارق في التيه.
مَن الرّاعي؟ مَن الذّيب؟
* والقطيع؟ لم تسألْ
* ما أجهلك!
* سألتُكَ والقطيعْ؟
* رضيعْ
* ما أعدلك!
كلاهما قاتلٌ: القاتلُ والمقتولُ.
كلاهما ضحيّة: الضحيّةُ والجاني.
الجِنَّةُ التكنولوجيّة لوثةٌ فاقت منجزاتها -في عالم الاتصالات- خيالات الشعراء القدامى، الذين اتخذوا من عبقر أو أماكن متشابهة ساحاتٍ لحريّاتهم المسلوبة على أيدي الشيوخ، ومجلس الشيوخ.
هل يقدّم هذا الفضاء المشاع نزراً يسيراً لقرابين الأسئلة التي ما انفكّت تشغلُ بال الإنسان، منذ وعى نفسه؟ ولماذا الإنسان مأسور بها؟
* وهذا الحقد الموزّع في الفضاء المشاع مِن أين جاء؟
* كُلّ هذا الهدم، ولا نيّة للبناء!
* وقال: (اعتزلهم جميعاً)
مَن أنتَ أيّها المزوّر بتسميةٍ لم نتّفق عليها بعدُ؟ أيّها العربيّ؟ من أنتَ «الآن وهنا»؟ يوشكُ هذا العالم الجديدُ أَنْ ينقلبَ على قفاه. يقهر نفسه كلّ يومٍ، لكنّك لا ترى إلاّ نشيده؛ وتكاد تكون المثقّف الوحيد الذي يعتاش يوميّاً على كميّة كبيرة من الاضطرار والغموضات والعبثيّات في نزاع دمويّ لا ينتهي؛ ثمّ إنّك مازلت عالقاً وتائهاً في: (من أنا؟ وماذا أريدُ؟)
* يا لكَ من أعمى....
* كلّ هذا الوضوح......ألا ترى!
إلى أيّ مدى يعرف المثقّف العربيّ ماذا يريد من وراء الإلحاح الاصطلاحي على تكرار: (الديمقراطيّة، الليبراليّة، المدنيّة، الحضارة، السيادة...) ما الذي بقي من روح تلك الكلمات على قدر ما تمّ مجّها وبجّها لأنّها قائمة في التيه.
أسقط الربيع العربي الهالك كلّ ادّعاء ثقافيّ بالتعدّد وبالتنوّع وتسيّدت المذهبيّة والاستقطابيّة والإقصائيّة خطاباته، حتّى لكأنّك لا ترى فارقاً بينه وبين المستبدّ.
الظنّ بأنّ الحضارة والسيادة والقوّة نواتج أخلاق وقيم تصدّرها الحضارة الغربيّة اليوم هو ظنّ لا يصمد أمام الواقع وطبيعة الحضارة.
الحضارةُ شيءٌ وأخلاقها شيءٌ آخر، وليس صحيحاً أنّ القيم الثقافيّة الأخلاقيّة والمدنيّة هي صانعة الحضارة الغربيّة، وهذا الظنّ أساسه قوّة المتوهّم العربيّ وضعف ثقافاته النقديّة والتفكيكيّة.
لا يقوم نظام ديمقراطي إلاّ على أسس علمانيّة، وأيّ بناء دستوريّ له يخلو من العلمنة فإنّه لا يقيم ديمقراطيّة، ولا يعوّل على دعاته، وهي غير ضامنة للقوّة والسيادة والتحرّر من التبعيّة، لمن هو مشغول بهذه الأولويات، كما أنّ الأنظمة الملكيّة والشموليّة وذات الحزب الواحد ليست عثرة للقوّة والسيادة والإنتاج.
كُلُّ سلطة هي شرٌّ محتملٌ، أمّا غيابها فإنّه شرٌّ أكيدٌ، وغيابٌ مؤكّدٌ لوجود الإنسان.
قيمةُ كلّ شيءٍ مرهونة برضا الإنسان عنه، والظنّ بأنّ الأخلاق متشابهة أو واحدة ظنّ طوباويّ يستحسنه الرعاة.
أما تعبَ الربيعُ على طرفٍ يجزُّ رأسَ عشتروت؛ وإلى متى تتيتّم من بطشهِ الفصولُ؟!
* كلّا، ليس هذا ربيعاً بل تيه على تيه.
جَبَلٌ يَرَى ويتكلّمُ...
(هو) هذه الرؤوس التي جزّها الربيعُ.
«بيل غيتس رجلٌ عظيمٌ وكريمٌ، علّتُهُ أنّهُ مسيحيّ وأمريكي»
يقول الذي يرى العالم من ثقب إبرة مملوكة لأبويه، ومعلّمه؛ وآخر ضاع في الهمزة والغمزة يصيح بعد كلّ عشيّ بقصص تاريخيّة مختلقة –ويالذمّة التاريخ ورواته، وكلّ معاركه في تمجيد جنسٍ دون آخر، وتعظيم عرق دون آخر، وعلى مرمى من بصره يتقرفصُ بعض حشدٍ محوقلين مسبّحين على هكذا خطابة.
* أوباما مُسْلم
* أمريكا كافرة.
هذه لغةُ مَنْ لا لغة له.
* يصيحون: «السيفُ والموتُ للمخالفين...»
* يصيح المخالفون: «لا حريّة لأعداء الحريّة..»
هذه قلوب من لا قلوب لهم.
قوسان متعانقتان، متعاركتان، متصالحتان،..... والقوس خنثى
«لو مرّ سيف» لم تدرِ أيّهما قوس عليّ وأيهما قوس معاوية؟
) «إيران هي الخطر الأكبر، لا إسرائيل»: يقول لنا الخبير الجديد -نافياً عنه أيّ طائفيّة- ويحذّرنا كلّ صبح وليلٍ حتّى صار التحذير بليداً.
ويا لطيشه وجهله، الجَمَلُ العجولُ الذي يحاول أن يلجَ العلمانيّة من ثقب الإبرة، ها هو الآن على مذبح إيران وحزب الله، وعلى مذبح الإخوان في مصر واللحى والدماء في سوريّة -الآن تحديداً- يتعرّى تماماً ليكشف أنّه ما زال في وحل الطائفيّة: (سنّة على شيعة أو شيعة على سنّة) سيّان في هذا التيه الثقافي الديني الأعمى، وعلى محرقة هذا الدم الطفولي سقط اللاعبون المؤثّرون في أتون الطائفيّة وخلعوا أفكارهم وتيّاراتهم المدنيّة.
من هو العدّو؟...
أما زلنا نضع في البال والحسبان أنّ إسرائيل دولة عدوّ؟
كم من المخاطر يأخذنا إليها دعاة مَذهبة صراع المصالح بين إيران ودول الخليج؛ مَن المستفيد من تحريف الصراع عن واقعه، كأيّ صراع مصالح محتمل بين دول متجاورة، منها من لديها أطماع توسّعيّة وأخرى نفوذيّة وأخرى قياديّة، وكلّها -في زعمي- مصالح قابلة للفهم في المنطق السياسي، ولها أبواب عديدة على طاولات التفاوض، أمّا تحويلها إلى نزاع طائفيّ ومذهبيّ فإنّه يفضي إلى تيه، ويحمل نيران التقسيم والحروب الأهليّة إذ بمقدوره أن يحوّل العدوّ الخارجي إلى عدو داخليّ، لأنّ مكوّنات دولنا ليست واحدة، ولأنّنا دائماً متعدّدون متنوّعون.
كم من الدماء، وكم من دولة سوف تسقط ويدمّر فيها السلم الأهلي حتّى نرى جيّداً سقوط أفكار ومخطّطات الداعين إلى الخلط بين السياسة والفكر الديني.
غريبٌ أمرُ هذه الضحيّة، كلّ هذه الدماء التي تسيل منها ولم تمت بعد؛ أمَا تعبَ القاتل والمقتول!
Yaser.hejazi@gmail.com
- جدة