Culture Magazine Saturday  21/09/2013 G Issue 412
فضاءات
السبت 15 ,ذو القعدة 1434   العدد  412
 
غواية المعرفة «جدلية المعتقد»
سهام القحطاني

 

من اليوم المتحكم في تشكيل المعتقد الاجتماعي؟

وأقصد باليوم «الراهن»، والراهن في «ذاته إشكالية» ليس لأنه يخضع «لسوق القوة» أو «لضغط الوسيلة»؛ إنما إشكالية لثلاثة أسباب؛ السبب الأول لأن حصوله مقتضى وليس طبيعيا؛ والاقتضاء هنا يدخل في باب «تحول الطارئ إلى اعتيادي» وفق قوة تهديدات المؤثر النوعي، لكننا نظل نختلف في قوة تهديدية المؤثر التي تحوله إلى «تشريع للديكتاتورية» في ذاته، ولذلك كان هنا «الاقتضاء» باعتباره ملِزما للتنفيذ، غير قابل للرفض أو القبول.

إن الاقتضاء كمُشرّع لآليات الضبط هو في ذاته معيق لسلامة المعرفة.

قد يقول البعض إن الاقتضاء هو تجاوز مقبول عند أرباب العقل «لمنطق المعرفة» لأنه يمثل حالة طارئة والمعرفة يجب أن تؤسس وفق الثابت لا الطارئ.

وذلك تبرير غير مقبول؛ فالاقتضاء كمشرّع لآليات الضغط هو يحمل ضمنا معرفة بشكل من الأشكال؛ لا ما نعتقده أن مكتسب الاقتضاء قائم على «ردة الفعل».

أما كون القيمة المعرفية لحاصل الاقتضاء لا ترقى للمستويات العليا للمعرفة، فهذه مسألة أخرى فالاختلاف في تحديد نوعية القيمة ومستواها وقوتها لا يلغي وجودها في الأصل.

كما يمكننا تحسين «نوعية القيمة» و«تقويتها» و«رفع مستواها» من خلال إخضاعها «لفقه المعرفة».

والسبب الثاني كون الراهن إشكالية في ذاته؛ إن الإيمان به فرضي وليس اختياريا؛ وهنا نقف أما مسألتين هما «الإيمان» و«الاختيار».

نستمد إيماننا بالأشياء والأفعال والفضائل من خلال ثلاثة مصادر، إيمان نكتسبه من الوراثة، وإيمان نكتسبه من العلم وإيمان نكتسبه من الخبرة.

وتلك المصادر هي التي تتحكم فيما بعد في اختياراتنا لمواقفنا وقراراتنا فالعلم والخبرة غالبا ما يؤثران في اختياراتنا المتعلقة «بسنة التحول» و«سنة الضرورة» و«سنة التمكين» و«سنة النهضة» و«سنة التعايش» و«سنة التداول».

ويظل العديد من الاختيارات التي نُدفع لها تحت عنوان «مكرها أخاك لا بطل».

وبذلك ترتبط اختياراتنا بالضرورة بمصدر من مصادر فاعلية الإيمان العملي الذي نؤمن به وفق المكتسب النفعي للآخر غالبا.

إن فاعلية الإيمان بما نعتقده هو أمر ضروري وليس ملزما ولذلك قد تكون أحيانا خياراتنا لا ترتبط بما نؤمن، بقدر ما ترتبط ما هو ثابت بالتطبيق لحاصل العلم والخبرة. وهو أمر يساعد المجتمعات على تقبل الاختلاف وتجاوز أزمة التمييز العنصري والطائفي.

وهذا لا يعني بالتأكيد خلو اختيارنا من «قيمة المبدأ»، فليس الدين فقط هو من يصنع مبادئنا إنما العلم والخبرة هما أيضا صانعان لمبادئنا، خاصة وإن إيجاد توافق بين مكتسب العلم ومكتسب الخبرة هو غالبا توافق ممكن، خلاف إمكانية الاحتمال المفتوح للشقاق بين حاصل الإيمان الديني والإيمان العلمي، وهو شقاق يتيح زراعة «غواية المعرفة» بين الخلافين.

في المبتدأ «كل إيمان هو حاصل معرفة» وفي الترقي كل معرفة هي صانعة إيمان، وكوننا نعيش مرحلة الترقي فالمعرفة هي التي تصنع إيماننا بالمفاهيم والأفكار.

يقال إن الإيمان مسألة تتعلق بموضوعية المعرفة، لكني لا أعتقد ذلك فالمعرفة كونها صانعة لإيمان خاص فهي في المقابل مفكِكة لإيمان آخر، وبذلك فهي تمارس «تكفير فكري» عبر تحيزها وتحزبها في صناعة إيمانها الخاص.

ولذلك لا يمكننا على الدوام الجزم «بمهنية المعرفة» و»نزاهتها وشرفها»، فثمة حينا من الدهر تمارس «المعرفة غوايتها» على المستضعفين؛ لإثبات أن ما تصنعه من إيمان أقوى من إيمانهم.

فليس هناك معرفة شريفة بالمعنى الخالص، وليس هناك معرفة طاهرة من أثم الغواية بالمعنى الخالص.

وخاصة أن «صناعة المعرفة» تتحكم فيها قوى الرأسمالية، فالمعرفة ذو أصل نفعي منذ نشأتها، ولذلك علينا ألا نسرف في تقديس شرف غايتها. إن المعرفة الصانعة كانت ولا تزال من حق الأقوى والأغنى والظالم والمستعمر.

وحينما تصدر المعرفة للمستضعفين فالثمن الذي يجب أن يدفعونه هو تخليهم عن إيمانهم المعرفي لاعتناق إيمان المعرفة المستوردة، وهنا تمارس كل معرفة جديدة «غوايتها» على المستضعفين.

وهو ما يجعل «غواية الإيمان» الصادر عن «معرفة انحيازية لإيمانها الخاص» احتمال وارد.

هل هذا يعني أن الإيمان الحاصل من المعرفة لا يرتبط بقيمة «حقيقة»؟.

نعم «لا إيمان دون حقيقة» وأيضا «لا معرفة دون حقيقة».

والحقيقة هنا فاعل لا يشترط الحق إنما التصديق، ولا يشترط اعتراف إلهي إنما دوام الصلاحية.

الحقيقة هي آلية تساهم في تنظيم المنجز التابع للإيمان المعرفي.

إن خصائص الحقيقة وضوابطها في الإيمان الحاصل من المعرفة تختلف عن خصائص وضوابط الحقيقة في الإيمان الحاصل من الديني.

فمصدر الحقيقة في الدين ثابت خلاف مصدرها في المعرفة متحول، وضابط الحقيقة في المعرفة النفعية النهضوية، في حين ضابطها في الدين التوافق مع التراثي والعرفي؛ أي تحقق نفعية مشروطة بقبول ذلك التوافق، مما يعني أن «الحضور النهضوي» لا يهم تلك النفعية.

تشترط الحقيقة لسلامتها في المعرفة دوام النفعية، وفي الدين تشترط سلامتها للفكرة الدينية المتوارثة.

الحقيقة في المعرفة تكتفي بالتصديق دون مراعاة الحق وهو ما يوقعها في تهمة العلمانية، وفي الديني يكتفي بالحق المعنوي دون التصديق وهو ما يوقعه في تهمة التخلف والرجعية.

والتخفف من شرط التصديق لا يلزم الديني بوجوب تقديم البرهان التعايشي الذي يُثبت صلاحية الحقيقة لنشأة تمثيلات تتوافق مع الترقي النهضوي للمجتمع، وهو ما قد يوقع الإيمان المبني على الحقيقة الدينية في «دائرة الغواية».

والصراع بين التصديق والحق هو من يؤسس فكرة الاتهام بالتخلف أو العلمانية بين المعرفة والدين.

ليس كل ما نعتقده يجب أن يكون مرتبطا بما يؤمن به غيرنا وليس كل ما يعتقده غيرنا يجب أن يكون مرتبطا بما نؤمن به.

لكن المرونة السابقة بين ما نعتقده وما لا يؤمن به غيرنا، أو ما يعتقده غيرنا وما لا نؤمن به، ليست هي ما تمارس في الواقع الفعلي.

ما يمارس هو «تطرف غواية المعرفة» عندما يسعى كل طرف بفرض ما يعتقده على إيمان غيره واعتبار ما يعتقده غيره «غواية إيمان همجي».

ومن هنا تبدأ «جدلية المعتقد» التي منبعها «غواية ما نؤمن به بالنسبة لغيرنا وغواية ما يؤمن به غيرنا بالنسبة لنا». والسبب الثالث كون الراهن إشكالية في ذاته، لأنه لا يحمل معنى ثابتا، والثبات هو شرط التصديق لا الحق، فليس كل ما هو ثابت وفق قوة الراهن وضغطه هو بالضرورة ممثلا للتصديق أو مجبرا على التصديق، وإن كان له اعتباره في تشكيل الواقع لأن الضغط بالحق قد يحقق أدنى درجات محتوى التصديق، وهذه مسألة أخرى؛ أقصد ترتيب الأولويات ونفعيتها.

إن الراهن غالبا يستعيض بغياب التصديق شرط الإيمان المعرفي، وهو استعواض يجوّزه العقلاء؛ كون الراهن «حالة اقتضاء» لا تخضع لضوابط المنطق الاعتيادي.

وخطورة إبدال التصديق بالحق في الراهن هو إدخال ما يُحسب على الإيمان المعرفي الحاصل عن الراهن منظومة المقدس؛ لأني كما أوضحت سابقا أن من يشترط الحق هو «الديني» لتخليد حقيقته المعرفية.

وقد يعتبر البعض أن استثمار الحق في فرض «سلامة الراهن» يضمن سرعة حصوله على «شرط التصديق» بعد زوال حالة الاقتضاء.

كما لا يرى أصحاب هذا الرأي أي ضرر على معيار «قبول التحول» وخاصة في ضوء الالتزام بتطبيق «فقه المعرفة»؛ أي استثمار الإيمان المعرفي الحاصل من تشخيص الواقع؛ وإن كان ذلك التطبيق يوفر الحد الأدنى من محتوى التصديق، فذلك الحد في رأيهم يكفي لحماية حاصل الراهن من ممارسة «الغواية المعرفية».

- جدة
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 7333 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة