يعدّ الأدبُ من النشاطات البشرية التي تعتمدُ اللغة مادةً أولى لها. لهذا رأى فيه بعضُ العلماء نظاما دالا يستعملُ نظاماً دالا آخر. وهو، بناء على هذه الخاصيّة، يضطلع بوظيفة الإبلاغ نظرا إلى أن نصوصه تحملُ رسائل من صانع الكلام إلى متلقيه ناقلة معرفة وإخبارا. وهذه الرسائل هي ما يصطلح عليه بالمعنى. غير أن نصوص الأدب تحتفي، في نقلها للمعنى، بمظهر جمالي يقوم على صياغة اللغة صياغة فنية وهو ما اصطلح عليه بالمظهر البلاغي. ويتجلى هذا المظهر في اختيار للألفاظ والتراكيب على نحو يتجاوز حمل المعنى إلى التأثير في المتلقي بإحداث شيء من الانفعال فيه سمّاه بعض القدماء من أسلافنا، من بين ما سمّوه به، «تعجيبا» يحدثه «التجويد». ومن هنا كان الذهابُ إلى أن الأعمال الأدبية تجمع بين «الإبلاغ» و«البلاغة» فهي تنقل رسالة وتتأنق في نقلها على نحوٍ يحرّك الانفعال بقوّة الحسن والجمال.
غير أن النظريات والمناهج المختلفة التي اهتمّت بالأعمال الأدبية ودرستها قد اعتنت، أكثر ما اعتنت، بالرسائل التي تحملها تلك الأعمال مقتصرة، في معظم الأحيان، على الظفر بمعانيها ونقلها من لغة الأديب إلى لغة الباحث أو من الخطاب الفني إلى الخطاب المفهومي. أمّا الجانب الجمالي فقد اهتمت به، في القديم خاصة، البلاغة القديمة. وفي العصر الحديث اهتمّ البلاغيون الجدد بهذا الجانب الفني مستفيدين من علمي اللسانيات والخطاب مثلما التفت إليه الباحثون في نطاق عنايتهم بما يُصطلح عليه بـ «الأشكال» عندما أولوها اهتماما لافتا للنظر. لكن الاهتمام بالأشكال ظل يدور في فلك المعاني عندما بقيت الدلالات التي تستنبط لها تدورُ في نطاق إثراء الدلالة المعنوية التي تحملها الأعمال الأدبية. ذلك أن الفكرة الشائعة التي ظلت مسيطرة على معظم الدراسات، قائمة على الفصل بين الشكل والمعنى، لم تخرج عن القول بأن الشكل إنما يزيد في خدمة المعنى عندما يوسّع من دائرة الدلالة فيه ويزيدها عمقا لا غير. لهذا نرى معظم النظريات والمناهج المختلفة تدرس الأعمال الأدبية لتقوم بتأويلها (شكلا ومحتوى) معنويًّا في الوجهة التي تعتدّ بها.
والذي ينتج عن هذا أن مسألة اعتماد الأدب اللغة مادّة أوّلية لم تلق من الاهتمام، مثلما تدل عليه معظم الدراسات التطبيقية، إلا حظا يسيرا، فالعلماء والباحثون يكادون يقتصرون في علاجها على حصرها في قضية اللفظ والمعنى وما اشتق منها، لاحقا، من علاقات «الأشكال» بـ «المضامين» أو «الصيغ» بـ «الدلالات» وما إلى ذلك من الثنائيات. وفي الاقتصار على هذا الطرح من وجوه المسألة تظل «الأشكال» أو «الصيغ» كالحواجز التي يخترقها القراء للوصول إلى «المعاني» و«الدلالات». ومع أن العناية بـ «الأشكال» قد حظيت باهتمام الدارسين واكتسبت مزيدا من العمق ونالت حظا ظاهرا من الانتشار فإنها قد ظلت توظف في خدمة الدلالة لا أكثر ولا أقل.
أمّا الجانب الذي لم يهتم به الباحثون من اعتماد الأدبِ اللغة مادّة أوّلية له، إلا عرضا في سياق تقليبهم النظر في علاقة الألفاظ بالمعاني، فهو المتمثل في نوعية استعماله لها وما يترتب على ذلك من نتائج تتحدّد بها الوظيفة الخاصّة التي لا ينازعُه فيها سواه من النشاطات القولية أو الفنية.
والذي لا خلاف فيه أن الأدب هو الفن الوحيد الذي يستعمل في الأداء مادة أولية يتكوّن منها نظام دالّ هائل هو اللغة. وهذا النظام الدال الهائل الذي هو اللغة هو النظام الوحيد الذي توليه الشعوب، على نطاق مؤسساتي واسع، عناية خاصة. فهو النظام الدلالي الوحيد الذي يشمل تعهّدُه بالتعليم جميعَ المتعلمين في مستويات متعددة. وهو نظام العلامات الوحيد الذي تسهرُ طائفة من الواقفين على سلامة استعماله من أي انتهاك للقواعد والقوانين التي يقوم عليها. وحتى اللغات التي لم تكن لها مدارس تتعلم فيها فإن المجتمع بأسره هو الذي يتكفل بتقويم كلام الناشئة وتعويدها على احترام الصيغ والاشتقاقات حتى لا يدخل الاضطراب والانتقاض على اللسان ويظل التخاطب ممكنا.
للغة إذن مؤسسات كثيرة تسهر عليها ضمانا للتخاطب على النحو الذي يسمح للناس بأن يفهم بعضهم عن بعض، فهي التي أوجدتها حسب الشيخ الرئيس ابن سينا «المجاورة للمحاورة»، وفي انتقاضها تنتفي الغاية منها متمثلة في التحاور. ولكن اللغة أيضا هي الأداة التي تؤثر في الأفراد والجماعات تأثيرا بالغ الخطورة. فهي الأداة التي ندرك بواسطتها العالم والوجودَ. بل إننا من فرط التأثر بها قد صرنا نعتقد أن الموجود فيها موجودٌ في العالم والوجود، فالأشياءُ أو الكائنات التي لم يرها، عيانا، أحد نصدّق بوجودها ما دامت لها في اللغة أسماء (كالعنقاء مثلا)، وجميعُ الأشياء التي توجد في العالم والوجود دون أن يكون لها ذكر في اللغة لا تعدّ موجودة. والأغرب من هذا كله أن اللغة قد تغلغلت في كيان كلّ منا حتى كأننا نغرق فيها أو تنشب فينا دون أي سبيل للفكاك. فمن هو الذي يقدر، مثلا، على إيقاف عملية التكلم فيه. ومهما توسّعنا في تبيان الأثر العظيم الذي للغة في أيّ منا ظللنا بعيدين جدا عن الإلمام به.
لمّا كانت للغة مثل هذه الخطورة فهمنا الأسباب التي حملت الشعوب على السهر على تعليمها وتكوين المؤسسات الكثيرة للعناية بها وصونها. ذلك أن أي تغيير فيها أو تحوير إنما يمسّ بإدراكنا الوجود بأسره لأنه يؤثر، في الحقيقة، في أداة الإدراك نفسها.
من هنا نصل إلى الفكرة التي نودّ عرضها متجاوبين مع ما أصبحت تحظى به من كثير الاهتمام لدى طائفة من المفكرين في اللغة والأدب في توسّع مطرد. قوام هذه الفكرة أن اللغة لمّا كانت هي المادة الأولية التي يعتمدها الأدباء في صوغ أعمالهم وكان الأدب هو الفن الوحيد الذي لمادته الأولية مثل هذه الخطورة كانت الخصيصة الخاصة بهذا الكائن الكلامي التي لا يتشارك فيها مع أيّ كائن قوليّ أو فنيّ آخر تتراءى متمثلة، إلى جانب الاضطلاع بما لسائر الخطابات من وظائف، في إقامة علاقة من الحوار مع النظام اللغوي.
وهذه الخاصية الخاصّة بالكائن الأدبي والمتمثلة في إقامة حوار مع النظام اللغوي وما ينجرّ عنه من نظم رمزية، تبدو متجسّمة، في أبرز مظاهرها، في الخطاب الشعري. ذلك أن الشعر، وهو جنس مخترق لجميع الثقافات ففي جميع اللغات القديمة والحديثة والمكتوبة والشفوية أشعار، هو المجال الذي يحتل فيه العمل على مادته الأولية، أي اللغة، المرتبة الأرفع. وفي هذا المنحى يتنزل افتخارُ الشعراء بامتلاكهم ناصية اللغة حتى كاد ذلك يصبح معنى شعريا قائما بذاته. وفيه أيضا يتنزل ذهاب كثير من العلماء والنقاد إلى أن الشاعر الكبير «حدث» في اللغة. ولعل تأكيد الخليل بن أحمد، في فترة مبكرة جدّا من تاريخ الثقافة العربية، على أن «الشعراء أمراء الكلام» وأنه «يحتجّ بهم ولا يحتجّ عليهم» من أوضح ما قيل في هذا المعنى. ثم إن الشعراء لم يُسمح لهم بالتصرّف في اللغة التصرّف الذي ينتهك القواعدَ التي وضعها النحاة ونصبوا أنفسهم حرّاسا لها دون أن يصل ذلك الانتهاكُ إلى تقويضها التقويض الذي ينتقض به اللسان ويبطل، لم يُسمح لهم بذلك كله عبثا. وهل من باب الاتفاق أن تكون في جميع اللغات «ضرورات» يباح للشعراء إتيانها دون الناثرين لو لم يكن ذلك معلنا عن موقف ما من علاقة الشعر باللغة التي تستعمل مادة أولى في قوله. ليس من شك إذن في أن هذا الموقف يشير إلى أمر يحتاج إلى تحليل حتى يتمّ الكشف عمّا هو خاص بالكائن الأدبي مكوّنا لفرادته دون أن يشاركه فيه نشاط بشري آخر.
- تونس