Culture Magazine Saturday  21/09/2013 G Issue 412
أوراق
السبت 15 ,ذو القعدة 1434   العدد  412
 
ليلى الأخيلية.. والحب السرمدي
زياد حمد السبيت

 

للشعر الغزلي خفقة في القلب وعلق بالنفس وصدق في العاطفة ليست كحال أغراض الشعر الأخرى فهو بينهم وحيدُ أبيه والحديث الذي يكون من القلب إلى القلب بإحساس مرهف جيّاش ويحكي لنا تاريخ العشّاق عن قصص تُروى بأسماء بعينها ظلت محفورة في ذاكرة الزمن لم تصدأ ولم يعله عجاج السنين فتحضر كلما صادفها عشق متيّم أو موت حبيب حتى في مراحلنا الدراسية لم تغفل الكتب ذكر جميل بثينة ولا كثيّر عزة ولا المجنون بالعامرية ابن الملوّح وتقبيله الجدران وقبلهم عنترة وصاحبته عبلة.

وليلى الأخيلية بنت الأخايل فارسة الشعر الغزلي على الإطلاق فليس هناك شاعرة تغزلت ورثت حبيبها حتى أفناه الدهر وبلغت من الكبر عتياً وهي متمسكة بودّها مراعية لعهدها في الحل والترحال كخدّام آلهة الشعر اليونانيين مثل ليلى الأخيلية، حتى أمام من لا يظن عليه أحد في كل خصاله وهو الخليفة نفسه عندما قال لها: أنت التي تقولين:

أريقت جفان ابن الخليع فأصبحت

حياض الندى زالت بهن المراتب

فعفاته لهفى يطوفون حوله

كما انقضّ عرش البئر والورد عاصب

جعلت منتهاه في الكرم لا يدانيه أحد - قالت: أنا التي أقول ذلك. قال: فما أبقيتِ لنا؟ وهو يريدها أن تقول فيه أفضل مما قالت في توبة لكونه خليفة المسلمين.. فقالت: الذي أبقاه الله لك. قال: وما ذاك؟ قالت: نسباً قرشياً، وعيشاً رخياً، وامرة مطاعة.. وكأنها بهذا أرادت أن تقول له يأبى الله أن أقول في أحد كقولي في توبة!! ورضيت بأن تُرَد حاجتها وتضرب أكباد الإبل على أن ترضخ ولا يكون عهدها به وقد خار قواه وإخلاصها قد شابه الخور والضعف.

وحكايتها مع توبة بن الحميّر كحكاية الكثير من العشّاق العذريين الذين يعلق قلبهم بفتاة الحي ما إن يرى منها التفاتة حتى يطير لبّه وقلبه ثم يختلف إلى مرابعهم كلما حانت الفرص لعله يظفر بنظرة كتلك النظرات التي تكون كنصل رمح رهيف هوى في قلب بطرفة عين أو أقل فلا يُنتزع إلا بمثلها، وقد ملأت من الحب والإعجاب والغرام.. فما زال معها على هذه الحال حتى ظهر أمرهما للعيان ويذكرون شعره فيها ولا يخلو ذلك من الحساد ومحبي الفتن وقد كانوا لا يزوجون فتاة لرجلٍ ذكرها في شعره مخافة تصديق ما قاله فيها فتكون سبةً عليهم حتى آخر الدهر.

ومع ذلك ظل توبة يقبّل آثار ليلى كلما هجع النيام وناح بقربه الحمام وظلت ليلى تتحسر على فراق توبة تحسراً بلغ معها قبرها ولم ينفع زواجهما من ذلك فكل واحد منهما اختار شريكاً لعله ينسيه الآخر فتزوجت ليلى رجلاً من بني الأدلع فطلقها ثم إنها تزوجت سوّار بن أوفى القشيريّ والذي تهاجى مع النابغة الجعدي فدخلت بينهما مدافعة عن سوّار فغلبت النابغة فعُدَّ من المغلبين.

وأما توبة فلا تذكر المصادر شيئاً عن زواجه غير أن ليلى ذكرت ذلك حين سألها الحجاج: هل كانت بينكما ريبةً قط؟ فقالت: لا والله أيها الأمير إلا أنه قال لي ليلة كلمة ظننت أنه خضع لبعض الأمر فقلت له:

وذي حاجة قلنا له لا تبح بها

فليس إليها ما حييت سبيل

لنا صاحبٌ لا ينبغي أن نخونه

وأنت لأخرى فارع وخليل

ومن هذا يتضح أن توبة كان قد تزوج أيضاً، ويُقال إنما أراد أن يختبرها فلما سمع منها حلف أنه لم يرد سوءاً وإنما أراد أن يمتحنها.. فكمن له بنو عوف رهط زوجها وقد أرادوا قتله فقاتلهم حتى قُتِل وقد أوصى أحدهم أن يأتي بني عبادة بن عقيل فينشد هذا البيت:

عفا الله عنها هل أبيتنَّ ليلةً

من الدهر لا يسري إليّ خيالها؟

وفاء عند الاحتضار وعهد يكتب قبل الوداع.. ففطنت ليلى أن توبة يعزي نفسه إليها فردت:

وعنه عفا ربي وأحسن حفظه

عزيزٌ علينا حاجة لا يناله

عاشت ليلى بعد توبة قرابة ثلاثة عقود فوفاتها سنة 86 هـ وتوبة سنة 55 هـ فبينهما سنون طوال يفسر الأصفهاني أبوبكر أن ليلى لم تعرف ثمالة الحب والعشق وإنما كانت ممسكة بطرفه (فليلى الأخيلية - عفا الله عنّا وعنها - إن كان ما حكاه لنا توبة في البيت الثاني حقاً ويقصد أبوبكر قوله:

لو مات شيء من مخافة فرقةٍ

لأماتني للبين طول تخوّفي

فإنه كانت جاهلة بأحوال العشق غافلةً عمّا توّلده روعات الفراق ولعمري إن من مراثيها في توبة بعد وفاته لدالة على أنها لم تتعلق من الهوى إلا بأطرافه، إذ لو كان الهوى قد بلغ بها أقصى الحال لكانت حياتها بعد وفاة توبة ضرباً من المحال).. فحاله في العشق أقوى وأشد من حالها وربما يكون ذلك ولكن لا أعتقد أن يكون ضرباً من المحال فرثاؤها وقبله عشقها ودفاعها عنه دليل على تعلقها وحبها إياه ويبقى بقاؤها من عدمه أمراً فسيولوجياً حتى لو وصل حدّ الحُشَاشة.

إن كان شعر توبة كله في ليلى فشعر ليلى أيضاً أغلبه في توبة حياً وميتاً تخلله بعض المقطوعات في الهجاء مع النابغة والمدح لبعض الولاة وشعرها قوي الألفاظ جيد السبك واضح المعاني حتى قال النابغة: كنّا نبتدر إلى معنى واحد فسبقتني إليه!! قدّمها الأصمعي على الخنساء وقدم ابن قتيبة الخنساء عليها وجعل ابن سلّام الجمحي الخنساء مقدمة في الرثاء.

ولو أنّ ليلى الأخيلية سلّمت

عليّ ودوني جندلٌ وصفائحُ

لسلّمتُ تسليم البشاشة أوزقا

إليها صدى من جانب القبر صائحُ

فقال زوجها وهما آيبان من سفر: عزمتُ عليك إلا أن تسلمي على هذ الكاذب فلما دنت وسلمت فزعت بومة كانت بجانب القبر راعها الهودج فطارت فنفر الجمل ورمى ليلى على رأسها فماتت ودفنت إلى جانبه.. فحتى نهايتها أبت إلا أن يكون توبة طرفاً فيه!! وتكون بجانبه في الموت كما كانت في الحياة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة