تطرقنا في الحلقة السابقة وألمحنا إلى حضور النحت المبكر في حياة الإنسان وكيف استخدم لمنافع وسبل تعينه على الحياة حتى وصفت فترة من فترات التاريخ وعصوره بالعصر الحجري الذي قسمت أطواره حسب بعض المصنوعات اليدوية الحجرية الموجودة في ذلك الوقت ومنها صناعة الأدوات البشرية.
وامتد هذا التحول والارتباط بالحجر من عصر إلى آخر وصولاً إلى الاستخدامات العصرية التي أصبح للفن فيها حيز كبير وبارز ومشارك في الإسهامات الإبداعية الحضارية والمتمثلة فيما ينتجه الفنانون من منحوتات منها ما ارتبط بإبراز الشخصيات ومنها ما اعتمد الفنانون فيه على تشكيل الحجر واستخراج الجوانب الجمالية منه، إما تعبيرًا عن واقع معين أو استلهامًا للطبيعة بما يتوافق مع ما يمكن التعامل به من الكتلة الحجرية على تنوع صلابتها ونوعيتها وسهولة أو صعوبة خامتها.
والحقيقة التي سنقف عندها اليوم في جانب النحت لتكون مدخلاً لإبراز الكثير من الإبداعات في هذا الجانب، هي في أن النحت لا يتوقف عند الكتلة الحجرية أو الخشب بقدر ما وجد الإنسان في خامات أخرى ما يضيفه إلى هذا الإبداع ومنها الطين (الخزف) الذي يعين النحات على تشكيل ما يريد التعبير عنه ومن ثم تحويله إلى قالب يتبعه مرحلة الصب واستخراج الشكل مكتملاً، كما أن في مادة (الجص) ما يمكن أن يتوازى مع الحجر أو مع الخزف مع فارق الصلابة وسهولة التكوين إلا أن بإمكان الفنان تحويله إلى قالب يمكن تكراره أكثر من مرة.
ومع أن هذه المقدمة قد تكون بعيدة عن أصل الموضوع لهذا اليوم إلا أننا نجد فيها ما سنتطرق إليه من إبداعات تعاملت مع تلك الخامات، وبأيدٍ طرية ناعمة قل أن يعترف بقدراتها النحتية أو إمكانية ترويضها للحجر، تلك هي (المرأة) الفنانة التشكيلية التي خاضت هذا المجال رغم صعوبته فكرًا وتقنيات، حيث تأتي صعوبة الفكرة في أولوية العمل خصوصًا أن ما أمام المبدع في النحت كتلة صماء لا حدود للفراغ المحيط بها عكس اللوحة المؤطرة التي يعرف الفنان من أين يبدأ فيها وينتهي؟ إذًا أمامه أبعاد ثلاثة يبنى كل بعد على الآخر بشكل مباشر وليس وهميًا يمكن معالجته بالظل والنور، كما في اللوحة، إضافة إلى الاتجاه أفقيًا ورأسيًا لا حدود له في مساحة مفتوحة.
بين ابتكارات المرأة وقوة عضلات الرجل
وإذا عدنا لوضع المجهر على الساحة التشكيلية بشكل عام وعلى الحضور النسائي بها لوجدنا أن من بين المبدعات فيها من مارس ترويض الكتلة الحجرية أو الخزفية أو الخشب أو العمل على منجز بنائي متعدد الوسائط، قدمن فيها إبداعات تضاهي أعمال الرجل فكرًا وموضوعًا وإتقان أداء، نافسن فيه ما يقوم به الرجل من الجانب الجسدي (قوة العضلات) التي يتوقع الكثير أنها الأهم في جانب التنفيذ ومع ذلك تجاوزت الفنان التشكيلية (في النحت) هذه المعضلة ووضعت نصب عينيها الجانب الجمالي والتقني ووجدت سبلاً كثبرة لتخطي هذه العقبة فكان لهن الحضور الرائع وكسب الجوائز.
ومن الممكن أن نسلّط الضوء ولو بشكل مختصر على ملامح إنتاج المرأة في النحت، حيث نجدها تهتم كثيرًا بالتفاصيل أو التزويق وهذا أمر لا يمكن الاختلاف عليه ولا ينقص العمل بقدر ما يجعل لها هوية وصفة خاصة، ولا يعني هذا أن ما أشرنا إليه من مثل هذه التفاصيل معمم على الجميع فهناك الكثير من ممارسات النحت يقمن على تنفيذ أعمال بأحجام كبيرة وعلى أصعب الخامات الحجرية، لكننا نرى في كثير من القطع النحتية في الحجر أو الخشب أو البنائية فيما ينتج من تشكيل الخزف أو التركيبات بالوسائط الصناعية أو البيئية الكثير من اختزال العناصر وإيجاد جوامع مشتركة بين النحت البارز والغائر وبين توليف القطع توافقًا مع الفراغ. إضافة إلى ما يمكن إرفاقه في العمل من عناصر من الطبيعة معمارية أو تراثية أحيانًا مباشرة وأخرى مبهمة.
ولا ننسى ما يمكن إضفاؤه من التنويعات والإضافات اللونية لخلق نوع من الإيقاع في أجزاء الكتلة. ترى فيه الفنانة نوعًا من الطابع الشاعري الباعث للتأمل.
هذا الجانب يمكن رؤيته وبشكل أكبر في الزخارف والنقوش التي تضفيها النحاتة على إبداعها أحيانًا تستلهمها من واقع البيئة والموروث المحلي للمحيط الذي تعيش فيه وأخرى من فنون لحضارات قد تكون محفوظة في ذاكرة ثقافة الفنانة البصرية التشكيلية، مع أن الأكثر اتجاهًا في النحت هو التجريد الذي يعتمد فيه على اختزال الشكل وتبسيطه.
حضور آثار الدهشة وصنع الإعجاب
يتجلى في إبداعات التشكيليات في مجال النحت وبوضوح التنوع الشديد في الأساليب وكيفية صياغة الشكل والمعايير الجمالية وفقًا للمتغيرات التقنية، بين تعامل مع أدوات أولية، طبيعية المصدر أو صناعية كقطع الحديد أو الألمنيوم والحبال أو في سبل تشكيل الخزف وقد برز في هذا المجال الكثير من التشكيليات على المستوى العربي أو المحلي يمكن أن نذكر ببعضهن ومنهن الفنانة العربية المنشأ العالمية الشهرة الفنانة منى السعودي التي تعد من رائدات هذا المجال التي تعاملت مع النحت في وقت مبكر وعلى أصعب خاماته وحققت به حضورًا عالميًا ووضع أحد أعمالها أمام المعهد العربي بباريس. كما نشاهد أيضًا بعضًا من النماذج العربية الكثيرة منهن النحاته العربية سوزان العبود هيفاء عبد الحي، أما في محيطنا السعودي الذي نفخر بالكثيرات في هذا المجال نذكر منهن الفنانة لمياء مريشد التي شاركت وحيدة في معرض الفن السعودي المعاصر عام 1322هـ بقطعة نحت على الرخام. تلا ذلك مشاركات لمجموعة من التشكيليات عام 1430هـ نورة الغامدي ورحاب أبو راس، وفي عام 1431هـ شارك مجموعة أخرى وهن: أزهار الحميد، أبرار الحامد، حصة عبد الوهاب، صفاء الهاشم، نجلاء المبدل، وفي معرض الميديا الأول شارك كل من نورة شقير وحنان حلتاني بأعمال مفاهيمية تنحى إلى النحت. اما الأكثر كثافة وتجمعًا لعدد من التشكيليات فكان في معرضين الأول المعرض الرباعي للخزافات ونأخذه اليوم كجزء من إبداعات التشكيلي البنائي في النحت والمعتمد على تشكيل الخزف المباشر أو ما ينتج عن القوالب وكلاهم جزء من التشكيل.
شارك بالمعرض أربع خزافات قدمن إبداعات تتمثل في تشكيل الطينة لإنتاج أعمال برز فيها روح النحت من كتلة أو نحت بارز وغائر لكل من: منال الصالح، مها العريفي سوزان الصايغ، وريم إدريس.
أما المعرض الآخر الذي شكل حجر زاوية في النحت النسائي (صفة للمنفذ للعمل) فهو في معرض عين القطر الذي شارك به كل من منيرة العقيلي، أماني الحازمي، أمل الشلتي، أمل الشافعي، أنغام منشي، ثريا مؤذن، خلود البقمي، داليًا مقيم، دعاء، شعلان، سعدية الفضلي، صبا سمداني، رندة المعطاني، صفية ميجان، هناء باناعمة، حيت أبدعن فيه بأصول التصميم والتعامل مع القوالب وإنتاج الشكل بمستوى عالي الجودة بخامة البرونز التي يعتمد عليها في مختلف الأشكال الجمالية الميدانية.
إلى هنا يمكن أن نقف لنمنح الصور مساحتها استشهادًا بها على هذه المنجزات للفنانات التشكيليات في مجال النحت.
monif@hotmail.com