لندن-زينة أرحيم
تقول الدكتور سلمى الخضراء الجيوسي: إن أقسى لحظات حياتها جميعها كان إدراكها الأكيد بعد مدة قصيرة من وجودها في أمريكا أستاذة للأدب العربي أن العرب (غائبون عن المشاركة الثقافية في العالم: غائبون، مغيَّبون, وأننا مع ذلك لم نكن غاضبين. كان تعامل المثقفين العرب وأغلب مسؤولي الثقافة مع هذا الوضع تعامل المستسلم الذي يحتمل ظلما مخططا ضده دون أن يتحرك فيه عرق واحد. لم يشعر أحد بذلك الفزع الرهيب الذي يمسك القلب والعقل إذ يرى كيف أن العالم العربي، بتاريخه الشاسع وإنجازاته الحضارية السامقة، وبالدور الأساسي الذي لعبه في النهضة الأوروبية وفي تاريخ الإنسانية جميعها, تقهقر، حضارة وثقافة، إلى زوايا معتمة من الكون، وقد تجاهل العالم عطاياه الغنية، وتناسى انتصاراته والرسالة التي حملها إلى الإنسانية عبر تسعة قرون من التحضر والعطاء). ولأن الجيوسي علامة فارقة في نشر الثقافة العربية لدى الأمم الأخرى كان لابد من تسليط الضوء على رحلتها ومواقفها وإنجازاتها خلال خمسون عام من العطاء.
فيما يلي حوار تطرقنا خلاله لمفاصل حيوية في مسيرة الدكتورة سلمى الجيوسي...
-ما الهدف الذي طمحت إلى تحقيقه عندما بدأت العمل الفكري قبل نصف قرن؟ وهل تغيّر إلى أن وصلتِ إلى «بروتا»؟ وما الذي تطمحين إليه اليوم؟
في مطلع الحياة، عندما يكون الإنسان فتيا ويتخيل أن الحياة محارة في يديه, يستجيب إلى نوازع إبداعية أو فكرية تلح عليه دون أن يكون لديه هدف معين أو مخطط واضح. الحياة الإبداعية أو الفكرية لا تبدأ عادة بتخطيط دقيق بل تبدأ بدافع ذلك الهاتف الخفي الذي يقلق ويشغل العقل والحواس. فيكتب الإنسان.
المخطط، الهدف المعين، يجيء عادة بعد النضج واكتشاف الذات وما خفي فيها من مقدرات وقوى وإمكانات، وما تحتاج إليه اللحظة الحضارية. التكرس الكامل يحدث بعد النضج إلا أن يكون الوازع إيديولوجيا فلعل هذا هو الهوس الأكبر الذي يمكن أن يستولي على الإنسان أحيانا وهو في مطلع العمر ثم يستمر، بلا مواربة ولا إيقاظ مخالف، مدة طويلة.
عندما بدأت أخطط لعمل واسع أخدم فيه ثقافتنا وتاريخنا الحضاري كنت قد ذقت الأمرين عذابا وحيرة لقلة إحساس الآخرين بهذا الذي اشتعل في قلبي وعقلي. هل من الممكن أن نترك كل ذلك العطاء الكبير الذي قدمناه إلى العالم لقمة سائغة بين أيدي أولئك الذين اختاروا تجريدنا من قيمة عطائنا الثقافي الكبير للإنسانية وننزوي في درك بعيد عن حركة العالم؟ كيف يقبل عالمنا العربي أن يطأطئ رأسه لتهم التخلف الأدبي والرجعية الثقافية التي لفقها ضده كتاب مشؤومون عرب وأجانب وكأنه ما كان شيئا؟
قبل نصف قرن لم أكن أخطط بعد بل كنت أتعذب وأعيش على قلق كبير. هذا القلق لم أكن قد وجدت له الكلمات والمعاني الواضحة بل أشد ما كنت أشعر به هو أن الأمة كلها واقعة في شبكة معقدة من السلبيات المهينة. لم تكن أوضاعي الشخصية ملكي الكامل ولم تكن في مأمن من غدر الدهر ولكن هذا كله كان يبدو لي بسيطا أمام ما كان يشغل بالي ويعذبني دون أن أجد له الكلمات التي تفسره، إلى أن ذهبت إلى أمريكا. وهناك برزت النتوءات التي قررت توجهي نهائيا.
أول ما ألح علي بشكل قوي وأدى إلى نتائج إيجابية، أي إلى تأسيسي لمشروعيّ الاثنين، ونجاح العمل الذي قمنا به تحتهما، هو اكتشافي عندما ذهبت إلى التدريس الجامعي في أمريكا أن العالم خارج الوطن لا يعرف عنا شيئا ذا قيمة حضارية؛ وأكثر من هذا, أننا نحن أنفسنا لم نعد على وعي بحقيقة إنجازاتنا الثقافية والحضارية عبر التاريخ, لا نعرف شيئا عن تلك الفذوذية التي سيّرت ثقافتنا وصاحبت مبدعينا في عالم عربي مترامي الأطراف موحد الثقافة واللغة. أيقنت أنه لا بد من عمل شيء حاسم. إيقاني الجارف ذاك، المليء بغضب شديد لم يترك لي مجالا للتفكير بنتائج الاستجابة إليه وبما قد يدخله إلى حياتي من تشعث وقلق؛ فقد وجدت نفسي ملك قوة أخرى هي أشبه بدنف المحبين. ولجّ بي ذلك الهوس الدائم التحفز أن لا ألتفت إلى الوراء إذ أمسك بي إيمان موحد الرؤيا بضرورة هذا العمل، بقدسيته, بفروضه القاسية المليئة في النهاية بالخير والكبرياء. كان العالم يود حشرنا مع الأمم التي لم تعط شيئا إلى العالم بعد ونحن صدقنا ذلك. طأطأنا رؤوسنا وقبلنا حكمهم الجارف على حياتنا وتاريخنا وعطائنا العبقري. قبلنا وصمتنا وحتى اليوم ما زال كثيرون منا صامتين، هيمن عليهم مركب نقص لا يليق وأخضعهم لسلبية الحكم ضد الثقافة العربية فأشبعوها ازدراء وضحالة تقييم. كانت المأساة تكمن في أن معظم الذين دافعوا عن الثقافة العربية في ذلك الوقت أي في منتصف القرن العشرين كانوا سلفيي الرؤيا لم يجدوا إلى هذا الميدان مدخلا جديدا جاذبا بل كرروا المنطفئ والمعاد، بينما كان العرب الحديثون يتطلعون إلى الانتقال إلى المعاصرة والحداثة، إلى قراءة الجديد والمبتكر وكتابته، فانهارت حجج المدافعين التقليديين وصدّق عدد كبير من العرب الحديثين التخرصات التي انصبت على العرب وثقافتهم وحضارتهم، تلك الحضارة التي مدنت الشرق والغرب.
كانت قدرة المخربين على الكذب والتمويه وإثارة النفور كبيرة وقد عاصرتها أنا وشهدت أساليبها بعينيّ ووجعت لهذا طويلا. ثم نشأ في نفسي نوع من التحدي الصامت الذي قادني فيما بعد إلى إعلان الحرب على وضعنا الثقافي في العالم ومحاولة تغييره بقوة. أما المخربون فلن تسامحهم الأجيال الصاعدة أبدا في المستقبل.
يوم بدأت العمل على محاربة هذا الوضع المزري لم يكن أحد حتى ذلك الوقت قد واجهه كوضع سياسي في أساسه. لم يكن أحد قد تحرك لتغييره, لم يكن احد قد أدرك خطورته وقدرته على قمع الكبرياء والكرامة وتهميشنا دون الأمم والشعوب. نعم: لم يثرْ أحدٌ عمليا ضد الافتراء المركب الذي حاق بالشيء الوحيد الذي بقي بين أيدينا سليما وهو ثقافتنا وإبداعنا قديمه وحديثه والذي يعني تقويضه شرذمة وحدتنا الثقافية وتمزيق تلاحمها وتفريق مبدعيها. وحتى الآن لم يزل الكثيرون منا مستضعفين لا يحركهم شيء. إن في نفسي نفورا كبيرا منهم. أنا مع النقد الذاتي وبكل نبض في عروقي ضد التخلف الذي حاق بحياتنا، وضد الرجعي والتقليدي، ولكن محاربة الوضع لا يكون بتهديم الذات ومحو قيمها وتحقير تاريخها جميعه. هذا قتلٌ للكرامة يلاجٌ غايةً في اللؤم والعدوان لمركبات نقص لا نستحقها ولا يستحقها تاريخنا الثقافي المليء بالإبداع والعطاء. نعم, نهدم الخراب ونسفهه ولكن لا على حساب تاريخ ثقافي غني قل من يملك مثله في العالم. نهدم كل السلبيات ولكن نعمر بدلها حالا، نبني، نشيّد ونلأم الجراح، نغذي الكبرياء وننعش الثقة ونؤكد القدرة على معاودة الحياة وإعمارها. ولكن هذا لن يحدث أبدا إذا عملنا على قتل النفس الخلاقة ومحو احترامها لتاريخها المشترك المتين الروابط ولمقومات ذاتها الثقافية.
كانت المكتبات العالمية تشكو من قصور شديد في الكتاب العربي الجيد فكأننا لم نكن يوما سادة القلم والتنوير. وأقول لك وللقراء العرب إننا في حقل الثقافة ابتلينا ببلاوي كثيرة كبيرة لا تطاق اهمها قصور المسؤولين وموات همتهم. لن أنسى وجوه عدد من المقتدرين رأيتهم مرة بعد مرة في بلدان عربية متعددة: الواحد منهم يستمع إليّ ولا يبدو على وجهه إلا ابتسامة تسلية طفيفة، ولا يتحرك فيه شيء. كانت ثقتهم بتفوق الثقافة العربية وماضيها الساطع قد ماتت منذ أجيال، وشعورهم بتفوق الآخرين علينا شعورا راسخا، مغلفا بالجهل والبلادة، مقفلا بلا حراك. كنت أخرج من عندهم ونفسي مليئة بالدهشة والرفض لوجودهم الخطر على الأرض العربية؛ أخرج مليئة بالقهر وبحرج اللحظة التاريخية التي تضيع بين أيديهم وعقولهم.
-ما هي أسس اختيارك للمؤلفات العربية التي تريدين للقارئ بالإنكليزية الاطلاع عليها، وما يؤثر على اختياراتك؟
الجودة أولا ثم الجودة وبعد ذلك اختار في حقل الترجمة ما هو أكثر قبولا للغة الأخرى وكذلك يهمني كثيرا أن أقدم للعالم أكثرالنصوص العربية جدة وطرافة وتنوعا وتميزا ومنها ما كان له اكبر تأثير على الأدب الغربي. ولكن الغرب لن يعترف لنا بأي أفضلية في الوقت الحاضرعلى الأقل،إلا إذا كشفناها نحن بالبرهان المنطقي والسرد التاريخي الموثّق. الكشف عن هذا يقع علينا.
-ماهي النصوص التي كان لها التأثير الأكبر على الأدب الغربي؟
المؤثرات متعددة أذكر لك منها ثلاثة في مجال السرد وحده: منذ أكثر من عشرة قرون برعنا في نوع أدبي هو نوع الخبر، عربي قبل كل شيء وكثير منه كان قصصا قصيرة. مؤخرا حررت كتابا كبيرا عن السرديات القصصية القديمة عند العرب وهو جاهز للنشر الآن وفيه دراستان اختصتا بموضوع الخبر والقصة القصيرة في العصور الكلاسيكية، كما صدر لي مؤخرا أي في صيف 2010 مجموعة كبيرة مترجمة للقصة العربية الكلاسيكية فيها أمثلة كثيرة للقصة القصيرة من نوع الخبر؛ وقد استرعى جنس الخبر أيضا نظر جورجز لويس بورخيس, واحد من أهم كتاب أمريكا اللاتينية فكتب عنه بإعجاب. ثم انظري، ثانيا, إلى قصة المعراج ومعها قصص زيارة الجنة والنار التي نجدها عند المعري في «رسالة الغفران» وابن شهيد في «التوابع والزوابع». هذه، لا سيما قصة المعراج التي ترجمت باكرا إلى اللاتينة والفرنسية والكشتالية، اقتبسها دانتي فيما بعد لمؤلفه الشهير، الكوميديا الإلهية، واحد من أهم الإنجازات الأدبية الغربية في القرون الوسطى المتأخرة وهذه لا يمكن التغاضي عن تقليدها الدقيق لقصة المعراج.وقد كتب في القرن العشرين الراهب الكاثوليكي أسين بلاثيوس عن التأثير الكبير لقصة المعراج على دانتي وكيف أخذ عنها عمله الشعري الشهير وتلقى غضب المتعصبين مسيحيا وقوميا ولم يتراجع قط بل عاد فتابع دراساته الأمينة. وتبعه بعد وفاته سنة 1944 كتاب آخرون أقروا ذلك. هذا كله أظهرنا أهميته التاريخية في كتابنا عن السرديات العربية القديمة المذكورة أعلاه حيث كتب عنه د. عبد الواحد لؤلؤة في دراسة مطولة.
ثالثا انظري إلى المقامات بدلالاتها المواربة العميقة السخرية وكيف أثرت على سيرفانتيس في روايته الشهيرة، دون كيشوت، التي يعتبرها الغربيون بداية الرواية الأوروبية.
هذه الأنواع كانت ابتكارا عربيا مهما أنكر الغرب بتعصب بالغ تأثيره الكبير على القصص الغربي. وقد تحدثنا عنها جميعها، كما قلت أعلاه، في كتابي المحرر عن تاريخ القصص العربي القديم المذكور أعلاه.
إننا لا نعرف قيمة إنجازاتنا ولا دورها في تطور القصة في الغرب، ولا نجرؤ على منافحة التخرص علينا ونناهض إلغاء إسهامنا الكبير في إغناء الإبداع الإنساني. مات فينا شيء حيوي وغرقنا في أوهام تخلفنا عن ركب الحضارة؛ إلا أن مجرد الاستسلام إلى هذه الرؤيا المهينة علامة التخلف المتميزة. التخلف ليس ظاهرة عرقية بل وليد أوضاع خاصة قابلة للتغير والانتفاض. سمعت أقوالا كثيرة حول أهمية الهدم ولكن الهدم يجب أن يركز على البناء في نفس اللحظة؛ الحياة لا تقبل الخواء.
«لو ساندونا لقمنا بمشاريع أخرى هي أيضا جد متميزة ونشرناها عند أرقى دور النشر». كم ضاع علينا وقت ثم
-أين وصل مشروعك للعمل على أدب المرأة السعودية؟ وهل حقّق مشروع مركز دائم للترجمة أي تقدم؟
لم يبدأ أي منهما حتى يصل. اقترحته ولم أجد لاقتراحي أي صدى. أنا لا أفهم هذا أبدا. كيف يتراجع المقتدرون عن الدفع بالمشاريع الناجحة ودعمها وتيسير العمل عليها. إن مصدر عجبي هو أن جميع المشاريع التي عملنا عليها نجحت نجاحا كبيرا ومع هذا فالقادرون على الدعم تنتفخ رقابهم وتزور أعينهم إزاء أي مشروع جديد مبتكر لم يألفوه ولا يفهمونه، ولا يدركون أية خسارة تخسرها الثقافة العربية بهذا الإهمال! لماذا لا يحاولون عمل شيء مهم في المدة التي يتولون فيها رعاية الثقافة رسميا ويفتحون طريقا للتثاقف العالمي فيبقى ذكرهم مسجلا في قائمة الرواد الحقيقيين؟ يبدو لي أن مجرد وصولهم إلى مركز مهم في بلدهم يصبح كافيا لإرضاء غرورهم، فهم يعيشون في لحظتهم وللحظتهم ولا يهمهم أبدا مستقبل الأمة ومكانتها في العالم.
-آلاف المواهب العربية أصيبت باليأس والإحباط على طريق التميّز والإبداع، ما الذي حملك على المتابعة؟
لعلي أجيء من خلفية خاصة دفعت بي إلى الصمود والقدرة على المجالدة. لم تكن نشأتي عادية. كان أبي, صبحي الخضراء, مجاهدا من ذلك الطراز الذي يعمل بلا توقف على ما آمن بأنه واجب اللحظة التي يعيشها. فتحت عيني على رجل محارب، من نوع مختلف. فقد رأى باكرا وأنا بعد طفلة، أن الخطر الأول على وطنه الفلسطيني هو محاولة استملاك الأرض العربية عن طريق عدد من الأساليب وأكثرها كان مخالفا للقانون. فماذا فعل؟ درس القانون وتخصص في قانون ملكية الأرض وبدأ حربا فردية قانونية على انتهاكات ملكية الأرض الفلسطينية. كان رجلا لا ينام. وقد عانى الاعتقال والسجن والمنفى كثيرا. ولكنه ثابر دون إضاعة لحظة من حياته. أنا لا أتذكره إلا منشغلا بخط الدفاع هذا عن وطنه. ربح دعاوى قانونية كبيرة متعددة لا سيما في الجليل كأراضي منشية عكا الواسعة من آلاف الدونمات. كان ربحه للقضايا الوطنية يُستقبل بالاحتفالات والأهازيج الشعبية الكبيرة لا سيما في بلدته صفد. فحول صفد ربح دعوى قرية ميرون بأراضيها التي كانت قد وقعت زورا بأيدي المغتصبين ومثلها ربح دعوى قرية بيريا. هذه كلها استرجعها والدي قانونيا وعندما عادت بيريا إلى أيدي العرب اشترى أرضا على قمة الجبل وبنى عليها منزلا صيفيا لنا كان أول منزل نسفته عصابات الصهيونيين عند بدء النكبة.
هذا الجهاد المتواصل كان جزءا مهما جدا من نشأتي. والدي كان مثلا حيا أمامي. في رسالة كتبتها لابني أسامة حدثته فيها عن جده قلت: «لقد كان همي الأكبر أن أقدم عملا شريفا للعالم تحية له واستمرارا لكفاحه واعترافا بوحيه ورؤياه، عملا يسمح لي بأن أكشف عن جهاده الذي لم يتوقف لحظة، وأكشف عن مخططه الذكي النبيل الذي غاب عن محدودية العقول المغلقة، وما زال غائبا عنها.
كانت له رؤيا واسعة وإرادة حديدية, وعقل لا تغلفه الشكوك ولا تحرك فيه الخوف والتقية. لقنني الكثير من محباته اللامحدودة. وحصنني حتى وصلت
الليل با لنهارلا أنام، ساهرة على محباته.
قال لي في آخر لقاء: أدرسي أكثر يا سلمى، العلم الرفيع هو طريقك إلى الحرية. فحررت نفسي من كل اتكال.
أما أمي، أنيسة سليم، فقد كانت امرأة مثقفة وشاعرية المزاج، وطنية حتى الصميم، سندا لبنانيا صامدا لزوجها، من طينة غريبة على عصرها تؤمن بحرية العقل والفعل. قالت لي في مقابلتنا الأخيرة سنة 1955 إذ كنت في طريقي مع أسرتي إلى بغداد: «تذكري دائما يا سلمى أن حظك في يدك». لوبقيتْ حتى الآن لكان عمرها مئة واثني عشر عاما. كم امرأة في عالمنا العربي الشاسع تقول اليوم لابنتها شيئا كهذا؟
- ماهي أسس نجاح العمل الثقافي في الوطن العربي؟
إذا كان للإنسان أن ينجح في عمل ثقافي كبير مسؤول عليه : أولا: أن يختار شيئا ذا قيمة واضحة؛ ثانيا: أن يكون هذا الشيء الذي يختاره يسد فراغا في زمنه؛ ثالثا: أن يكون هو قادرا تمام القدرة على القيام به بنجاح وإبداع فيكرس النفس والوقت له؛ رابعا: أن يكون الإتقان والدقة والرهافة والموضوعية واللياقة الأدبية والصبر ثم الصبر ثم الصبر أمورا ملازمة لعمله. خامسا: ثم إن الإيمان بوحدة الثقافة العربية كانت دائما أمرا ملزما لا خيار فيه بل كان هو أساسا للمشروع لأن العرب لا يمكن أن تقوم لهم قائمة إذا قبلوا التشرذم والإقليمية. سادسا: وملزم ايضا أن يكون القائمون على مشروع كهذا يتحلون بالتجرد الكامل من المحسوبية والنرجسية والعداوات التي تعطل الأحكام وتشوه الرؤيا. سابعا: وفي وضعنا مع هذا المشروع كان علي أن ألتزم بأمر آخر: العناد والإصرار. لقد ثابرت على المشروع أكثر من ثلاثين عاما دون توقف ومع كل المنغصات فقد عملنا الكثير رغم النفوس القميئة التي حاولت تأخير عملنا كثيرا، وبعضها حاول ويحاول النيل من حقوقناالفكرية دون أن يدرك مدى الخطأ الذي يرتكبه، مدى خروجه عن القانون الساري في العالم. ثمة أمور لا يود الإنسان أن يتحدث عنها لأنها محرجة ولها دلالات كريهة إذ تشير إلى عدم اسنيعاب هؤلاء المسؤولين لأصول التعامل في أمور كهذه تشمل الحقوق الفكرية للقائمين على العمل. وعندي أمثلة أليمة عن هذه المواقف سجلتها كتابة جميعها. إن الكثيرين ممن تسلموا مسؤولية الثقافة العربية ذوو نفوس طاووسية تهدف إلى تفخيم الذات على حساب الضرورة العامة. هذا يشير إلى أننا نعيش اليوم في زمن سالف ولا نفهم عصرنا أبدا ولا نقبض على ضروراته وحرجه الكبير. القضية الصعبة هنا هي ان الثقافة العربية المعاصرة أصبحت، رغم ازدهار العلم, ثقافة سمعية لا دراسية والكثيرون من المسؤولين يستشيرون خارج معرفتهم ووعيهم الشخصي، خارج قراءتهم وقناعاتهم الخاصة، والذين يُستشارون يقررون مصير الطلب في حرص شديد على مصالحهم الخاصة، أو تركيباتهم العاطفية.
والآن بعد عمل طويل ناجح تقبّله العالم بمحبة وتكريم يخرج الإنسان بنتيجة مهمة يكون الإعلان عنها هنا ضرورة تخدم علاقاتنا الثقافية بالعالم وهي:
أولا: إن العالم ليس عدونا، نحن أعداء أنفسنا؛
ثانيا: إن العالم يحتاج إلى مداخلتنا الثقافية لأن ثقافتنا وإبداعنا الغنيين جزء مهم من العطاء الإنساني وإرث ليس فقط لنا بل للثقافة العالمية؛
وثالثا: إن أي عمل يملك الجودة والإتقان ويركز على ما يحتاج إليه العالم لا بد أن ينجح.
- أمام سلبية وزارات الثقافة والإعلام العربية تجاه النشاط الذكي لمواجهة العدوان الفكري ضد العرب، وانشغال رجال الأعمال بالأرباح، ما الأدوات التي استخدمتها للنجاح؟
قوة المنطق في الدرجة الأولى وإثارة الإحساس الوطني بأهمية العمل ثانيا ثم البرهان على المقدرة في الإنجاز ثالثا. لم تكن جميع هذه الوزارات سلبية ولو أن أغلبها كان. فحتى منذ أيام قابلت على موعد أحد وزراء الثقافة العربية لأكتشف أولا أنه لايعرف شيئا عن عملنا وأهم من هذا أن هذا النوع من العمل الثقافي المتوجه إلى الخارج لا يهمه أبدا، هذا والمال لتغطية العمل وافر جدا بين يديه، هذا، والعرب يواجهون اليوم حربا ثقافية تهدف إلى تقويض الركن الأكبر لوحدة العرب وهو الثقافة المعاصرة والتراث المشترك! أنا أعتقد أن ثمة مخططا خارجيا لتفتيت قوة هذه الثقافة. هذا المخطط تضافر مع إغراءات منحت لأصوات من داخل الثقافة العربية، بعضها تتمتع بقوة خادعة، تعينه على مخططه. ولكن العرب لن ينتبهوا إلى هذا إلا بعد مرور الزمن وترسخ السلبيات ضدنا. أنا أعرف هذا حدسا وتأملا واستنتاجا ويجب أن أسجله هنا. على هذا الفتور والتردد يعتمد المخربون.
حاول السلبيون كثيرا عرقلة عملنا ولكني جمعت العناد إلى الضرورة إلى العمل الدقيق ولم يتمكنوا من إيجاد ثغرة حقيقية يخدشون بها أعمالنا: ترجمنا الأحسن وكتبنا عن الأهم والأروع وكل ذلك أحطناه بما قدرنا عليه من إتقان ودقة وموضوعية وإخلاص. وأقمنا اتصالات مثمرة مع أنقى المستعربين وأحسن المثقفين والمبدعين العرب والأجانب، فلم يتمكنوا من شرخ المشاريع التي قمنا بها مع أن بعضهم حاول. قصص كثيرة مضحكة مبكية! ولكني لم أتمكن من إدخال ذلك الإحساس الغيور على المصلحة العامة إلى عقولهم وقلوبهم. غير أن الأمر كان خارجا عن أيديهم لأنهم لم يفهموه ولم يتحرك فيهم هاجس واحد يدلّهم عليه. إنهم بلا شك ليسوا أبناء هذه اللحظة العالمية ولا علاقة لهم بما يحدث خارج أُطُرهم الضيقة التي يرتاحون إليها.
ولا بد هنا من أن أذكر بإكبار وتكريم وزير التعليم العالي في السعودية الدكتور خالد العنقري الذي منحني ثقته وكرم عملي وسانده مساندة من فهم جدواه واحترم غايته ومستواه. أنه بنّاء أصيل.
أما رجال الأعمال فلا أعرف الكثير عن مواقفهم لو بادرهم الإنسان بقضية الثقافة العربية وضرورة دخولها إلى العالم من جديد. ولكن منهم من يجول في العالم ويتعامل معه ولا بد أنهم عرفوا بالحركة التنويرية الواسعة التي قام بها مؤخرا رجال الأعمال الكبار في أمريكا. أظن أن رجال الأعمال العرب، من كان منفتحا منهم على العالم، لا بد أن يكون عندهم من الشهامة والكبرياء ما يدفعهم إلى المشاركة في تقديم ثقافتهم وإبداعهم الوطني إلى العالم وأن يرفعوا من شأن سمعة العرب الحضارية وتقديم ثقافة الأمة وتاريخها المليء بالتحديات الإبداعية والابتكار والريادة. وهنا لا بد من شكر رجل الأعمال الطيب الذكر الدكتور أحمد العثيم على مساندته لآخر مجموعاتنا وهي مجموعة القصة العربية الكلاسيكية التي صدرت لنا عن دار جامعة كولومبيا في نيويورك في تشرين الأول/أكتوبر 2010.
ولا بد هنا من الذكر الحميم مع الشكر الخالص للقاص الكاتب المبدع الأستاذ عبدالله الناصر الذي حمل معي الهم والفرح سنوات طويلة وأدت مساندته الروحية والفكرية لمشاريع المؤسستين إلى نجاح عدد من أكبر مشاريعهما، أهمها كان كتاب المدينة في العالم الإسلامي في جزئين، الذي سانده صاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن فهد وأنجزناه تحت رابطة الشرق والغرب وصدر عن دار بريل في هولندا وقد نال من بين ستة وعشرين ألف كتاب جائزة تشويس لواحد من أهم الكتب الأكاديمية الصادرة سنة 2008. والثاني مجموعة القصة العربية الكلاسيكية المذكورة أعلاه.
ولولا سعي الأستاذ عبدالله الناصر لما تمكنا من إنجاز هذين العملين الكبيرين.
-في رحلتك الفكرية الطويلة، هل طرقت بالك فكرة «أن الأمر لا يستحق» كل ماتقدّمينه؟ وإذا مرّت، كيف تجاوزتها؟
ما كان لفكرة كهذه أن تمر في بالي لحظة واحدة. ما ذنب الثقافة العربية حتى أحملها نتيجة التفكير القاصر؟
استمر عملي دون لحظة تأخير. والأمر يستحق أكثر وأكثر وسيجيء يوم يقدر فيه مسؤولون أكفاء من سكان عصرغير عصرنا المشوش قيمة الدخول بثقافتنا إلى العالم. ستصبح هذه الفكرة هي السائدة لأنها هي الأهم والأقرب إلى الكرامة والحق في هذه اللحظة الحرجة المليئة بالتحديات والتنافس ولن يخدمنا شيء على الصعيد الثقافي العالمي أكثر منها.
- قلت في لقاء سابق «إن التعب يخففه النجاح»، هل التأمت جروح تعبك اليوم؟ وهل استطاعت موسوعات الجيوسي تحريك مفكرين شباب لحمل رسالتك والنضال في سبيلها؟
الجروح لن تلتئم لأنها من أساسها نتيجة الأذى والشر او بدائية التفكير وهذه ما زالت تستمر وتستفحل؛ ولكن الإنسان يتخطى ويتجاوز ولعل تجاوزي لما سبب لي من ألم هو اكثر ما أرهقني فالتجاوز لا يعني النسيان بل الإغضاء عن الأذى في سبيل العمل والإنجاز ولكنه يظل هاجسا وفي كثير من الأحيان يعود فيواجهك ويملؤك قهرا وهو ليس قهرا شخصيا بل قهر القابض على سر جهير لا يفهمه الآخرون بينما يجب أن يكون نصب أعينهم؛ وقهر المحب لتكاثر الجاهلين ومناوءاتهم الخالية من الوطنية والذوق والذكاء ومن معرفة العالم؛ وهي، في مجال الثقافة خيانة كبيرة للثقافة التي هي سلاحنا الأكبر أمام تهم العالم لنا بالتخلف واللاإنجاز.
أما أن يجد الشبان الأذكياء طريقهم إلى خدمة أعتبرها شديدة الأهمية وعظيمة النتائج إن نجحت فهذا ما أرجوه. الحياة قصيرة والزمن سريع ونحن في حاجة ماسة إلى متابعة هذا الانفتاح الذي حققناه بنجاح في العالم. ولكن هذا العمل يحتاج إلى اجتماع صفات متعددة عند القائمين عليه، صفات علمية وفنية وأخلاقية ونوع من تفهم كبير للعالم وعدد من لغاته وثقافاته المتعددة المختلفة الرؤى والأساليب.
-هل راودك احساس بالذنب تجاه موهبتك الشعرية، التي غيب انشغالك بمشروعاتك الكبيرة وجودها الفعلي وانتشارها؟ فبينما يستطيع أي باحث مهتم أن يقوم بالأبحاث والترجمة، لا يستطيع إلا أصحاب الملكة كتابة الشعر، وخاصة أنك شاعرة لا يشكك بها الذكور في ظل تغييب النساء عن الأدب.
النساء العربيات غير متغيبات عن الأدب لا سيما في مجال النثر الإبداعي كالرواية والقصة ولكنهن مغيبات أحيانا؛ غير أن هذا سيكون أمرا مؤقتا فقد اكتشفت المرأة العربية نفسها وليس من قوة في العالم تجرؤ على إعادتها إلى القبر. لن تعود.
أما الموهبة الشعرية فعندك حق في السؤال. كانت القصيدة تجيء فأؤجلها ريثما انتهي من هذا الذي بين يدي وهل ترى خلت يداي لحظة واحدة من عمل ملزم لا ينتهي حتى يكون سواه قد احتل مكانه؟ كنت أتابع عملي على المشاريع دون أي انقطاع ولم يكن في هذا من بد. بالطبع أنا أشعر بأسف كبير لما ضاع مني ولكني اشعر أيضا بالسعادة القصوى أني أنجزت إنجازا مهما في هذه اللحظة الحضارية الصعبة الشديدة الحرج.
أما قولك إن كثيرين يستطيعون القيام بالعمل الذي قمنا به من ترجمة وأبحاث فهذا إشكال حقيقي لأن هذا العمل يستدعي جميع الشروط التي ذكرتها أعلاه ولم يكن أبدا سهلا.
إن عملا صعبا كهذا يحتاج إلى التصميم الكبير القادر على الاستمرار عاما بعد عام دون الوصول إلى الإرهاق الذي هو أساس في أكثر التغيرات شخصية وعامة. وإن من يلتزم بعمل رئيسي داخل نظام التفكير السائد لا بد أن يتحلى بالشجاعة والصبر الكبيرين والقدرة على التضحية الكثيرة وفي مجال الثقافة لعربية في هذا العالم المتشرذم لا بد أن تكون رؤياه لوحدة الثقافة العربية والمحافظة على وحدتها وتاريخها المستمر والاستفادة من تغايرها في بعض البلدان أمرا راسخا يرفض الإقليمية وترسيخها لأن في هذا شططا فنيا في الدرجة الأولى وشططا سياسيا مماثلا. هذا لا يعني الغض من شأن الثقافات الإقليمية لا سيما الناشئة منها أو المهددة هي أو شعبها ولكن هذا لا أن يكون على حساب الوحدة الأساسية التي تتمتع بها الثقافة العربية.
-ما العقبات التي واجهتك كرائدة أنثى في مجالات فكرية مختلفة ولم تكن لتواجهك لو كنت ذكراً؟ وهل غيّر كونك امرأة من تقييم إنجازاتك من قبل الآخرين؟
العقبات جاءت من العالم العربي إجمالا وليس دائما وسببت إشكالات متعددة للعمل. ولكني حذفت تاريخها من ذاكرتي وسرت في الطريق الذي اخترته.
كنت أعرف أن المرأة قد تكون فريسة سهلة للعالم الذكوري الذي لا يطيق أن تغلبه المرأة في أي ميدان؛ عندي قصص كثيرة مضحكة مبكية عن اعتداءات عالم الذكوريين على منجزات لم يستطعها أي منهم؛ أعطيك مثلا واحدا على هذا هو هجوم النقاد الرجال على نازك الملائكة يوم صدركتابها النقدي قضايا الشعر المعاصر سنة 1962. عدد منهم جردوها من اي مزية نقدية وهذا جريمة لا تغتفر لهم. صحيح إن بعض آرائها في الشعر الحر لم تكن وافية ولم تثبت في النهاية ولكن هذا لا يلغي عبقريتها الشعرية وإخلاصها فيما تقول ومعالجتها النقدية المبدعة في قضايا شعرية كثيرة. كانت في الخمسينات مجددة متوهجة الفكر مختلفة عن الآخرين في مقاربتها للموضوع النقدي وللإبداع الشعري، ولا شك أنها كانت ملكة الخمسينات في الشعر ونقد الشعر، ثم حدثت عندها بعد ذلك الهجوم ردة فعل كبيرة على ما أظن غيرت مجرى شعرها، وأي خسارة للشعر! في وقت لاحق كتبتُ عنها وعن أخريات كدرية شفيق مثلا, لاقين مرارة كبيرة من العالم الذكوري ونشرتها بالإنجليزية.
عندما بدأت أنا كان العالم قد تغير قليلا ولو أنه بقي عاجزاعن تحمل قدرة المرأة على الابتكار والجرأة على المغامرة الإيجابية وعلى خدمة فكرة كبيرة، بقي مسلحا بآلات التشويه، ولكني لم أعبأ به كثيرا. مشيت على طريق شائك ولم أشعر بالأشواك التي كانت تتجمع لتمتحنني. لم ألتفت ورائي لحظة واحدة وحدثت معي حوادث متعددة مذهلة في تفاهتها الذكورية ولكني ترفعت عنها ومضيت وإن كنت قد كتبت عنها في مذكراتي فما ذلك إلا للتنبيه على وجود أنماط كهذه بيننا بعد والمحاذرة منها.
كانت حجتي ضدهم مضاعفة: الأولى هي أهمية العمل، رؤياه وغايته. هذه لم يناقشني عليها كفكرة مجردة إلا ندرة من العقول المستعمَرة، ولكن تصورها كعمل قابل للنجاح كان في أغلب الوقت مستعصيا حتى على الذين تحمسوا لها؛ والثاني هونجاح عملنا نجاحا ساندته تعليقات الغربيين الذين تناولوه بالكثير من الإيجابية وأصبح جزءا فعالا في التدريس الجامعي بالإنجليزية لا يمكن تجاهله. بعد هذه التجربة بت أقول « العالم ليس عدونا, نحن أعداء أنفسنا».
أن تقدم أفضل ما لديك بنجاح إلى العالم الواسع كان يحتاج إلى شروط متعددة كما تحدثت أعلاه. وكان عليّ منذ البدء أن أعاهد نفسي على الاستمرار, أن ألجم شوقي إلى الراحة والحياة الوادعة, أن أحارب دون كلل. وجدت منذ البدء أن العقول لم تكن منفتحة كثيرا لتقبل عمل كهذا ولا سيما عندما تقوم به امرأة. في النهاية تمكنت من التغلب على كل هذا لا سيما، أولا، أن دور النشر الغربية الكبرى أظهرت استعدادا غير مسبوق لأخذ ما كنت أعده من كتب محررة ومجموعات مترجمة وثانيا، إني استطعت أن أُشرك معي في العمل عددا مرموقا من كبار الشعراء الناطقين بالإنجليزية ومن أفضل المحررين الأسلوبيين وهذا غاية في الأهمية ولا يحدث مع كثيرين. ومضيت وتلقيت هجمات كثيرة خالية من المعنى ولم ألتفت مرة واحدة إلى الوراء. لم أشعر إلا بأنه كان علي ان أعمل، قدر ما أستطيع، على محاولة إنقاذ الثقافة العربية من التهميش الذي لا تستحقه ، أن أبرهن للآخرين على أهميتها وقيمتها، وأن أساعد في إعادة الثقة إلى قلوب الشبيبة العربية بأهمية موروثهم والدور الذي لعبه في الحضارة الإنسانية. رميت كل شيء آخر وراء ظهري؛ مشيت ولم ألتفت ورائي مرة واحدة. وكانت تتوالد الأفكار في مخيلتي الواحد بعد الآخر فأسجلها في ضميري ثم أسعى إليها واحدة بعد الأخرى. وحققت أغلبها على امتداد الزمن ولو عانق العرب المسؤولون الغاية التي سعيت إليها لحققت أضعاف أضعاف ما حققت. كنت أكاد لا أنام ولا ألجأ إلى التسلية والراحة على الإطلاق. كيف يرتاح القلب إلى مشهد الخراب وتهم التخلف واللاإنجاز؟ كيف يأنس في الحياة وهي مهانة معاقة؟ كيف يرضى القادر على حماية ولو شيئ من السمعة والكرامة والحق أن يتخلف عن ذلك لحظة واحدة؟ وما معنى كل وزارات الثقافة العربية إذا هي لم تتحدَّ أوضاع الثقافة العربية المتردية في العالم؟ ولكني لم استسلم لليأس لحظة واحدة بل صبرت وانجزت وأنا أقول: سيجيء يوم يرون رؤياي ويشدون أزر هذا العمل بكل قواهم مع آخرين يجيئون بعدي. وأظن أن ثمة تحركا هنا وهناك يبشر بالخير.
لعلي لقيت أكبر المصاعب عندما طرحت على بعض أهم المقتدرين ماليا أن يقوموا معي بواحد من مشاريع ضخمة كنت قادرة على القيام بها بنجاح كبير لو أنهم ساندوا المشروع ماليا ولكنهم لم يعيروا ذلك لحظة تفكير. من أهم ما لم انجح به مع العرب هو مشروع عظيم أرسلته إليهم واحدا واحدا ولم اجد اي استجابة: ذلك كان الكتاب الذي قررت تحريره عن الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس وكتبت في اواسط الثمانينات لجميع وزراء الثقافة العربية فلم اتلق جوابا من أي منهم سوى من العراق الذين اعتذروا لأنهم في حالة حرب! أما البقية فلا شيء. وفي لحظة وحي نادرة تذكرت الأغاخان. كان ذلك في اكتوبر سنة 1988 واستمرت الكتابة بيني وبين مكاتبه في باريس وجنيف حتى آخر سنة 1989 وجاءني الجواب بالموافقة في أول يناير سنة 1990. وتمكنت من إصدار مجلد كبير عن جميع مناحي الثقافة العربية الإسلامية في اسبانيا في أكتوبر سنة 1992 أي في الذكرى الخمسمئة لانتهاءالحكم الإسلامي في الجزيرة الأيبيرية. وقد نجح هذا الكتاب نجاحا باهرا وما زالت دار بريل تعيد طباعته. كانت آخرهذه الطبعات في شهر آب سنة 2010. إن مشكلتنا ألأولى في هذا المجال هو، كما قدمت أعلاه، أن الثقافة العربية المعاصرة أصبحت ثقافة سمعية أي أنها تعتمد على السماع لا على التفحص العلمي المثقف.
ولكن المشروع الكبيرالآخر الذي أردت القيام به منذ حوالي ست سنوات كان مشروع الترجمة إلى عشر لغات. اتصلت لأجله مع كبار المقتدرين ولم أستطع ان ألفت انتباه القادرين إلى جاذبية المشروع وأهميته القصوى. كنت أعتمد كثيرا على سمعة واسعة أحرزناها في عملنا على الترجمة إلى الإنجليزية كان يجب أن تشجع المقتدرين وتحرك خيالهم ولكن لم يتحرك فيهم شيء. فعلمت أن رسالتي في أهمية نقل الثقافة العربية إلى العالم لم تدخل بعد جميع القلوب والعقول. وأنه قد يكون لها في بعض المراكز الثقافية أعداء لا يريدون الخير لثقافتنا إذا كان العمل يتعدى مقدرتهم المحدودة أنفسهم؛ أوأن نجاحنا لم يفهم بعد على حقيقته غير المسبوقة. حزنت كثيرا لأني كنت قد اتصلت بعدد من المترجمين الرئيسيين في الصين واليابان وألمانيا وروسيا وسواها واتفقت معهم. لو كان بيدي ولو جزء يسير مما عند أصحاب المقدرة المالية، جزء بسيط فقط، لأدخلت الثقافة العربية في احسن إبداعاتها إلى جميع تلك اللغات.
-هل مازلت تؤمنين بأن النهضة ستأتي على يد الأجيال القادمة؟ وإذا تغير هذا الإيمان لماذا؟
بالطبع ستأتي. ليس عندي أقل شك في هذا. نحن أمة كبيرة ولنا خلفية ثقافية غنية جدا ولحظة الميعاد قد أزفت ولن تنتكس كما أظن. قد يؤخرها زبانية الشر قليلا ولكنهم لن يقتلوا الشرارة التي ستشتعل رغم كل محاولات التشكيك. الحقيقة ستنتصر والمنطق السليم سيرفض وضعا خاليا من الكرامة والعدل، مجردا من التاريخ لا سيما التاريخ الثقافي الذي استمر قرونا طويلة لا يقبل الانفصال. الثقافة العربية لن تتفتت مهما حاول الكارهون تفتيتها لأن هذا يعني نهاية لا تحتمل؛ يعني الدخول في وضع هجين أعرج لا يقبله العقل. وستجيء ساعة الكشف والتيقن من أبعاد هذا الخطر الذي لا يطيق الإنسان مجرد تصوره، وستسقط أسماء كثيرة. الخوف المداهم الآن هو اللغة لا الثقافة كرؤيا وتاريخ ووحدة إنجاز. اقول لك: أكاد لا أقرأ نصا واحدا على الإنترنت خاليا من الأخطاء النحوية.
-ماقصة ترشيحك نجيب محفوظ لجائزة نوبل؟
المعروف عالميا أن استشارة أكاديمية نوبل لأي مثقف حول قضية الترشيح يظل أمرا سريا ولكن الناطق بلسان الأكاديمية يومئذ السيد أندريس ريبيرغ فاجأنا ليلة تقديم الجوائز في استوكهولم عندما أخبر ابنتَي ّ نجيب محفوظ ومحمد السلماوي مبعوث وزارة الثقافة المصرية بأني كنت المسؤول الرئيسي في اختيار أكاديمية نوبل لنجيب محفوظ. حدث هذا بعد حفل تقديم الجوائز الرسمي في السهرة المرحة التي أعقبت العشاء الرسمي. ولا بد من القول هنا إني لم أتبرع للأكاديمية من نفسي بترشيح أحد بل كان التقرير الذي كتبته بناء على طلب الأكاديمية مني أن أقدم لهم صورة عن وضع الإبداع المعاصر في العالم العربي. في تقريري المطول لهم لم أغبط الشعراء حقهم أبدا بل كتبت أيضا عن خمس شعراء بكل ما أوتيت من موضوعية وحرص على سمعة الثقافة العربية في العالم وعلى أن تلعب ثقافتنا دورا كريما في حقل الثقافة العالمية, وأظن أن هذا أصبح معروفا عني بقوة فهو أساس عملي الذي لا يكل في نشرها باللغة الإنجليزية (وهي اللغة العالمية الأولى اليوم) وفي الكتابة والاستكتاب عن إبداعها وإنجازها القديم والحديث. إن الثقافة العربية هي حرصي الأكبر لا سيما بعد الهجومات الشديدة التي حاولت تشويهها وأضعفت من قيمتها في أعين الآخرين وأعين العرب أنفسهم، وزادت في تشكيك الشبيبة العربية التي جرحتها نكبات العصر وكوارثه القاتلة في قيمة تراثها الغني الباذخ وأهميته في تاريخ الثقافة الإنسانية؛ فحدث أنه حتى هذه الثروة الكبيرة وهذا الإبداع الذي لا يضاهى سقطت قيمته وبخس رواؤه. وزاد هذا من شعور العرب بهامشية وجودهم في العالم. بالطبع ثمة ما يجب رفضه في كل تراث فلا قدسية للشيء لمجرد قدمه، ولكن ما حدث من تشويه وإنكار لأقوى ما بقي عندنا من شيء نعتز به أمام الإنسانية كان الجريمة القصوى في حق هذه الثقافة ولن يتركه التاريخ دون حساب.
أما دعوة الأكاديمية لي لحضور حفل توزيع الجوائز فهي على ما فهمت استثنائية لأن الأكاديمية تدعو فقط أسرة الشخص المكرم.
ولكن كم كان مبهجا ذلك المساء.
-في مقال بصحيفة الوطن السعودية اعتبر الكاتب أن المشكلة بينك وبين أدونيس هي في التكوين النفسي والفكري فأنت من بلد العروبة والإسلام وهو لا، هل يمكن اختصار اختلافكما الفكري بهذه العبارة؟ وهل تغيّرت طبيعة الاختلافات بينك وبين أدونيس؟ أم أنها بقيت كما الستينات؟
لعلها تعمقت ولعل شيئا من الأذى دخل إليها. نحن نسير في طريقين متناقضين.
إن تقييمي لأدونيس شعريا لا يتغير كثيرا فهو في رأيي شاعر كبير وكاتب رئيسي وله معرفة حميمة باللغة العربية وبلاغتها وإيماءاتها جميعها. قال لي أكثر من مرة: «اللغة العربية في جيبي.» ولم أجد برهانا ينفي هذا التصريح قط: جدة ووضوح بليغ وابتكار في اللغة والأسلوب ودقة في التعبير لا يسبقه في هذا أحد.
إنما نحن مختلفان في موقفنا من الحياة والآخرين ومن الثقافة العربية، متنافران بلا أمل اللقاء. كان هذا الخلاف بطبيعة الحال موجودا من الأساس، من أيام خميس شعر وطالما تحدثنا فيه هو وأنا ويوسف الخال قبل انفصال أدونيس عن يوسف. وازداد حدة مع مرور الأيام، فنحن في زمن لا يستطيع تحمل المزيد من الخناجر المسددة إلى أحشائنا. الخلاف، بالنسبة إلي، لم يكن خلافا شخصيا بل حضاريا. وقد كان عملي الذي قمت به منذ ثلاثين سنة وأكثر وهو نشر خير ما في الثقافة العربية في الخارج مناقضا لكل هذه المواقف. كل منا يسير في اتجاه معاكس. ولكن لنكن عادلين: أظن أن غاية أدونيس الأولى في بدء حملته كانت ثورة على التراكم المرفوض لآراء رجعية في الرؤيا الفكرية والأدبية التي ما زالت تعيش في عالمنا، وعلى عيوب أخرى أنا أيضا أرى سوأتها بعيني؛ أظن أن هذا كان أساس توجهه ونقده، ولكن ثورته هذه وهي من أطول الثورات الفردية التي قام بها عرب أفراد في العصر الحديث, ازدادت قسوة وخسرت توازنها وشفافيتها مع الزمن إلى أن وصل الأمر به إلى الشذب الكامل تقريبا وإلى الذم والرفض الذي جهل أو تجاهل عظمة الإنجازات التي حفل بها تراث هو من أغنى ما قدمته الإنسانية للعالم إطلاقا. أظن أن أدونيس كان يريد أن يصدم المثقف العربي في البدء بغية دفعه إلى التغيّر والتغيير ولكنه، لحافز أو لاخر، ازداد موقفه السلبي قوة مع الزمن، واتخذ له رؤيا جارفة فحاول تجريد الثقافة العربية من أحسن ما قدمته إبان ازدهار حضارتنا وهو أكثر وأهم وأروع مما قدمه عالم القرون الوسطى بأجمعه غربي الهند. ولم تكن الثقافة العربية في منتصف القرن الماضي وما بعده قادرة على ما يبدو على نقاش هذه الاتهامات الجارحة بأسلوب حديث الرؤيا يعتمد على ثقافة متقدمة جمعت التحليل الحداثي إلى المعرفة العميقة بالثقافة العربية وقارنتها بالثقافات الأخرى التي عاصرتها في عصور ازدهارها. إن القرن الماضي حفل بأسماء بارزة حاولت (وليس دائما عن قصد مريب) تشكيك العرب بتراثهم وأحيانا بقيمته إلا أن هذا كان في أغلبه ناشئا عن جهل وقصر نظر وضعف في الحدس الفني وسذاجة في فهم معنى البحث العلمي و»الموضوعية» وهي الكلمة التي حملت جاذبا كبيرا للعرب الحديثين.