ينحدر من عائلة عراقية معروفة لها اسمها الكبير هناك، وقد درس في الجامعة الأمريكية ببيروت ثم حصل على الدكتوراه في التربية من الولايات المتحدة الأمريكية، وكان منذ شبابه ناشطاً في الحركة القومية وأصبح وزيراً لشؤون الوحدة في حكومة البعث الأولى في العراق قبل الانشقاق الكبير بين البعثيين في سوريا والعراق.
وقد جاء إلى السعودية بعد سقوط حكومة البعث الأولى عام 1963م وجاء معه كثير من العراقيين كمدرسين في الجامعات والمدارس الثانوية السعودية وبعضهم شيوعيون أو قوميون، وقد أتاحت لهم فرصة قطع العلاقات السعودية - المصرية في تلك الحقبة ومنع المدرسين المصريين من القدوم للعمل في المملكة فجاءوا هم والسوريون جنباً إلى جنب مع من سبقوهم من الأردنيين والفلسطينيين، ولم تدقق السلطات السعودية على ما يبدو في مسألة الانتماءات الحزبية أو الماضي السياسي لأي عنصر من تلك العناصر الناشطة، لأنها أولاً كانت في حاجة ماسة إليهم وثانياً فقد كانت لا تخشى في تلك الفترة إلا المد الناصري المسيطر عل الساحة العربية جماهيريا.
وهكذا تتلمذت في كلية التربية بمكة على نخبة من الأساتذة العراقيين والسوريين منهم البعثي ومنهم الشيوعي ومنهم البين - بين ؟! وكان الدكتور مسارع أحدهم، وكان يدرسنا مادة التربية وطرق التدريس.
ولأنه فطن فقد عرفني منذ المرة الأولى وزاد إعجابه بي بعد قصيدة قومية كتبتها لنشرها في مجلة الكلية عن «يوم التجنيد» للفلسطينيين عام 1965م وقلت في أحد أبياتها:
اليوم يوم البعث والثأر الدفين؟!
ويعلم الله أنني كنت أقصد (الانبعاث) وليس «البعث « بمعناه الحزبي والذي كشر عن أنيابه فيما بعد وأهدر حقوق الإنسان العربي، وكان حزباً فاشياً لم يقاتل العدو وإنما قتل مواطنيه!؟
لكن الدكتور مسارع التقطها.. وقال لي مازحاً: يابا ما تخاف يآذونك ؟! فقلت: لو سألوني لقلت لهم بأنني أقصد «البعث الإسلامي» وليس بعثكم «فقهقه بسعادة وزاد إعجابه بي، وأصبح يوليني عنايته ويكيل لي الدرجات في الاختبارات! ولم أوثق معه العلاقة أثناء وجودي في الكلية فقد كان ذا شخصية جادة ومهابة ويصارع دائماً من أجل أفكاره ومبادئه ويدخل في مشاحنات مع «العميد» وبعض الأساتذة والطلبة فكنا نسميه تندراً «الدكتور مصارع»! ولكنه كان في أعماقه طيب القلب ورحيماً بالطلبة.
ولما تخرجت في الكلية عام 1968م انقطعت صلتي بالدكتور مسارع وغيره من الأساتذة الذين درسوني، وظلت تلك الصلة منقطعة حتى عام 1980م عندما دخلت العراق زائراً ومعي زوجتي قادمين من الكويت، وهالني الفرق الفاضح بين المبادئ البعثية والتخلف الموجود في بلد الثروة والثورة، فلم أتصور مثل هذا السوء في الخدمات العامة وفي المعاملة ولاسيما في الجمارك بالبصرة مع أنني قدمت وزوجتي للعراق بملابسنا وبعض الهدايا البسيطة للدكتور وزوجته فقد كانت الحقيبة قد سبقتنا إلى مطار بغداد بالخطأ!، وقد دخلنا البصرة عن طريق البر، وفجعنا مما رأيناه فكأنك تخرج من القرن العشرين إلى القرون الوسطى وهذا هو الفرق بين الكويت والعراق في عام 1980!؟
وبعد أن أعيانا التعب من الحصول على غرفة في فندق ببغداد طلبت من أحد الفنادق الصغيرة أن يبحث لي عن رقم منزل الدكتور مسارع وما أن نطقت باسمه حتى بادرني الرجل بالمساعدة وقال: يابا هذا مشهور، وأوصلني به وكانت مفاجأة لكلينا ورد علي الدكتور: زين يابا اللي ما حصلتوا أوتيل! وأنا جاي الآن لآخذكم للبيت، ولم يمض سوى وقت قليل حتى أقبل بقامته المديدة وهيئته الأنيقة وابتسامته اللطيفة وعلى رأسه طاقيه على ما أذكر، ففرحت ولكنني لاحظت أن اثنتي عشرة سنة من الفراق قد غيرت من ملامحه، ورحب بنا وتعشينا عشاء خفيفاً وحكيت لأستاذي عن القصة التي حدثت لنا في جمرك البصرة وخشونة المعاملة هناك، فقال بأنه سيكلم الوزير المختص، وبدأ عليه الانفعال والأسف لما حدث. فقلت : يبدو أنها ليست حالة خاصة - فهم لا يعرفونني - ولكنه وضع عام على ما يبدو!
فقال: خليها على ربك؟! وأدركت أنه غير راض عن الوضع العام.
ولم أطق العراق إلا يومين فقط، واحد في البصرة وآخر في بغداد، واغتنمت فرصة ذهاب الدكتور للعمل في الصباح وكان يعمل رئيساً لجهاز مكافحة الأمية التابع لجامعة الدول العربية في بغداد، ورجوت زوجته أن تسمح لنا بالمغادرة فلم توافق إلا بعد جهد كبير واتصال مع الدكتور الذي شرحت له لماذا أنا مستعجل؟! بينما في الواقع كنا نكذب! وعدنا لدمشق التي تركناها قبل أيام .
ذهبنا ظهراً للمطار بسيارة زوجة الدكتور ووجدنا الحقيبة لحسن الحظ.. كما وجدنا الطائرة المتجهة لدمشق وركبنا فيها بعد جهد وتعطيل من قبل سلطات الجوازات في المطار بحجة أننا لم نسجل جوازاتنا في دائرة الجوازات والهجرة، وعندما صعدنا على سلم الطائرة التفت وقلت في نفسي: إن عدنا فإنا ظالمون!؟ ولم أصدق أن ترتفع عجلاتها عن أرض المطار!
أعود إلى ذكرياتي مع أستاذي الذي أحببته واختلط حبي له بالإعجاب بشخصيته وحسه المرهف، وقد حضر للمملكة عدة مرات لأداء العمرة وكنت وقتها أعمل في التعليم بمدينة جدة فكنت استقبله وأذهب به إلى مكة للعمرة. ومرة حضر هو وزوجته فجئت إليهم من الطائف ومعي هدية رمزية، وكان يهديني كلما حضر علبة من الحلوى العراقية المشهورة «المن والسلوى» أو بعض الكتب.
زار الدكتور مسارع الطائف عام 1981م لحضور أحد المؤتمرات التربوية وكان مرض السكري قد بدأ يؤثر عليه وتبدو آثاره على وجهه الذي انطفأ فيه الحماس والحيوية السابقة وبدأ يخطو نحو الوهن والكهولة ولكنه كان متماسكاً ويتميز بمزاج وفكر متوقد، وقد أكرمته بما يستحقه، واختصر لي تجربته الأولى مع حزب البعث بأنها قبض ريح كما قال لي بأن (صدام) عميل لأمريكا.
وفي تونس عندما نقل عمله للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم تقابلنا عدة مرات، ثم أصبحنا نتقابل أحيانًا كل عدة سنوات كان آخرها في القاهرة عام 1992م قبل أن تنتهي مدة عمله في المنظمة ويعود إلى بغداد وكان يخطط كما قال لي للاستقرار في عمَان أو القاهرة حيث يملك شقة في الدقي، ولكن لسان حاله يقول: مكره أخاك لا بطل؟! فعدم وجود مثله في السجن الكبير الرهيب (العراق) في عهد (صدام) المرعب يرسم عليه علامة استفهام أمام الطاغية وأزلامه من عناصر التحري والاستخبارات القمعية، وقد ذكر لي بأنه لم يقبل الوزارة في عهد (صدام) واعتذر عنها، وهذا موقف يحسب له مفضلاً خدمة قضايا محو الأمية والتربية والثقافة العربية وتأليف الكتب.
وهكذا تجرى رياح - العظام من البشر - بما لا تشتهي سفنهم؟! موقف آخر نبيل لا أنساه لهذا الرجل الفذ وهو أنه سهل التحاقي في التخصص الذي أريده (الدراسات الاجتماعية) في معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة للماجستير، وكانت أوراقي قد أعيقت في أواخر عام 1990 م، وعندما اتصلت به في مقر عمله بالمنظمة بتونس والمعهد يتبع لهم قال لي: راجعهم يابا بكره؟! وعندما ذهبت للسكرتير الذي رفض طلبي قبل أربع وعشرين ساعة وجدته متهللاً، وأطلعني على الفاكس الذي أرسله الدكتور مسارع لمدير المعهد الدكتور محمد صفي الدين أبو العز يطلب فيه قبولي في القسم المذكور لأنني - على حد قوله - من خيرة طلابه.
وعندما استقر بي المقام في مصر بعد التقاعد المبكر الذي حصلت عليه في عام 1988م صرنا نتقابل عند الدكتور محيي الدين صابر (سوداني الجنسية) رئيس منظمة اليسكوا العربية، ثم انقطعنا لسنوات طويلة، حتى فوجئت به يكلمني في الصيف الماضي وأنا أصيف في لبنان، وقال لي إنه مستقر كلاجئ في الأردن؟!
ثم زارنا للعمرة مع حرمه، وذهبت به إلى كلية التربية التي درّسنا فيها بمكة، ووجدناها كما هي ملحقة بجامعة أم القرى كإدارة ثانوية، وصوّرنا هناك، ثم ذهبنا في جولة بالسيارة على المشاعر المقدسة (عرفات ومنى) وذهل من التطور الذي أصابها والتنظيم والنهضة العمرانية والطرق والجسور مقارنة بالماضي. وأظنه أدرك متأخراً الفرق بين الدول الفاشلة والدول الناجحة؟!
جدة