(أ)
قدر الأطوار الإنسانيّة الانتقال من طورٍ إلى أعلى، لكنّ التعاقب الطوريّ لا يمرّ دون فترات بينيّة تتّسم فوضاها بصراعات بين ارتدادٍ وتقدّم؛ والطور نقلة إنسانيّة ذات نزعة تقدّميّة لا تأتي من فراغاتٍ أو أنّها طفرة فجائيّة، بل هي انتصار معرفيّ وسلوكيّ لمتغيّرات حضّرت لهذا الاستقرار الطوريّ الذي يتعلّق بتقديم تفسيرات للظواهر الكونيّة والبيئيّة المحيطة بالإنسان وداخله، وتحسين وعيه وسلوكه، وهذا ما أسميّه (جوهر المعرفة والسلوك الإنساني)؛ أمّا الفترة فهي الفاصلة بين طورين تختلط فيها المفاهيم في فوضى خلاقّة.
وعلى ضوء جوهر المعرفة والسلوك الإنساني فإنّ الإنسانيّة تُبوّب إلى أطوار ثلاثة ذات منتجات ثقافيّة تنفيذيّة (طور الأسطور: حيث غلبة الماورائيّات)، (طور الدين: حيث الجمع بين الماورائيّات والماديّات)، (طور العلم حيث الماديّات فقط)؛ وأيّا تعدّدت واختلفت وظائف وأطروحات الطور داخليّاً بين الشعوب والمناطق إلاّ أنها مرتبطة بسمةٍ أساس هي الغالبة على الطور نفسه.
وهنا يجب ملاحظة أنّ ماورائيّات الطور الأسطوري، ليست هي عينها في الطور الديني، كما أنّ الماديّات في الطور الديني ليست عينها في الطور العلمي من حيث المفهوم والوظيفة؛ وهذا هو المفهوم الكيميائي الثقافي حيث إن الناتج المركّب في الهجين الثقافي هو منتج مستقلّ عن مكوّناته؛ كما يجب ملاحظة أنّ كلا (الطور والفترة) حقبات زمنيّة طويلة، فإلى أيّ تصنيفٍ يمكن اعتبار الراهن التاريخيّ اليوم، طوراً أم فترةً؟
أزعم أنّ تأرخة الخروج من الطور إلى (مابعده-الفترة) بدت علاماته (أخلاقيّاً-فكريّاً) منذ قنبلة هيروشيما ثمّ تباعاً إلى خرائط الحمض النووي للإنسان (أي امتلاك الإنسان للدمار والعمار)؛ فلئن كانت الثقافات الثلاثة السابقات (الأسطورة، الدين، العلم) قائمة على مفهوم دمار العالم من خارج سلطة الإنسان، أو عقاباً ماورائيّاً نتيجة لأفعاله، فإنّ الإنسان اليوم يُضفي احتمالا جديداً حينما يصبح في يديه إمكانات الدمار الشامل وإمكانات توهّم الخلق والعمار.
وهذا التسارع الذي يسيطر على الإنسانيّة ابتداءً من نصف القرن الماضي في مخرجاتها الصناعية والمعرفيّة والتكنولوجيّا، وكذلك التبدّل في أشكال وسائل الاتصال ونقل وتخزين الثقافة والمعرفة وإعادة إنتاجها وتركيبها أكسب الأشياء والإنسان تماهياً في الوظائف، حينما يكتسب الإنسان صفة الآلة، وحينما تزاحم الآلة في أعمال الإنسان وترفع من بطالته، وحينما يكتسب الناقل صفة المنقول؛ فلئن كان –حتماً- أنّ القطار حينما ينقل جماعة من الناس، فإنّه لا يعتبر جماعة من الناس وإن ضمّهم بداخله؛ وحتميّة بسيطة كهذه يمكن أن لا تصمد اليوم أمام تماهي الوسائل الناقلة بالمنقولات؛ فبينما كانت رسائل (فلاديمير لينين) من منفاه إلى عمّال روسيا ناقلة للثورة البلشفيّة فحتما لم تكن الرسائل صانعة للثورة بل من وسائل صناعتها، وحينما كان الكاسيت ينقل خطب الإمام الخميني إلى الشعب الإيراني كان وسيلة ناقلةً للثورة ولم يكن صانعاً لها، لكنّ الأمر قد يبدو أكثر جدلاً إن تمّت مقارنة الربيع العربي ومواقع التواصل على النت والقنوات الفضائيّة، فإلى أيّ مدى يمكن اعتبارها ناقلاً فحسب، وليست صانعاً بديلاً تبعاً لإعادة إنتاج الثقافة والثورة أيضاً، لطالما تحوّل المتلقّي إلى مرسل في الوقت عينه، فإن الوسيلة تحوّلت بالتماهي إلى صانع. (وتلك مقالة أخرى في مفاهيم الثورة ووسائل نقلها)، ما يهمّنا هاهنا هو التركيز على ما يميّز هذه الفترة من اختلاف في مفاهيم الجمهور، الواقع، الوظائف، وتبدّل الأدوار أو كيميائيّة الأدوار، والوسائل أيضاً لا بوصفها آلة نقل وحسب، إنّما آلة نقل وإعادة نقل، وثقافة وإعادة ثقافة.
(ب)
وقفتُ في المقالتين السابقتين: (شيخوخة الثقافة) و(تحوّلات الجمهور الجديد؛ إعادة إنتاج الثقافة) عند إشكال غياب وظيفة الثقافة وتأثيراتها تبعاً للمفاهيم الشموليّة، وظهور مفاهيم جديدة تخصّ إعادة إنتاج الثقافة عبر الجمهور كمتلقّ ومنتج في آنٍ، وهي إرهاصات تحدّث عن فترة (مابعد الثقافة) تمهيداً لطورٍ لم يتَّضح مسمّاه بعد أو ماهيّة تطويراته المستقرّة، على الرغم ممّا يمكن رصده في هذه الفترة من ملامح داخل الثقافة، كأنّها تحت احتلال مفاهيمي والبحث فيها يستوجب ضبطها وفقاً لمعايير وظائفيّة، وملامح أخرى (خارج الثقافة) في مؤثّرات حركة الراهن ووسائله.
تفرّق هذه المقالة بين الثقافة بوصفها مرادفة لكلمات (أسلوب، طريقة، منهج)، كأن نقول: (ثقافة الأسطورة، ثقافة الدين، ثقافة العلم) وبين (الثقافة الأمّ) بوصفها فكراً وإجراءً متغيّراً، فحينما نناقش (مابعد الثقافة) فإنّما نخضعها للمساءلة والتفكيك بوصفها الأمّ، لمعرفة إلى أيّ مدى يمكن للإنسان اليوم أن يتجاوز عتباتها المشغولة بالإجابات الباردة، وبالأسئلة التي لم تعد تؤرّق الجمهور المؤثّر والفاعل. فما هي الأسئلة التي تشغل هذا المؤثّر القادم؟ وماهي أبعاد المنتجات الثقافيّة القابلة للتعامل معها؟
تنهل «مابعد الثقافة» أبعادها من معين الأطوار الثقافيّة الثالثة، دون اقتصار على ما هو داخل الإنسان بل تتعدّاه إلى خارجه، فالجوهر الثقافي المتأثر بالمدلول الديني ثمّ العلمي يتحرّر في البعد الجديد من التصنيف والتبعيّة لمنتج ثقافي دون آخر، إذّاك تكون (الهجنة) في (ثقافة مابعد الثقافة) جزءاً منها وليست دخيلة عليها، وإن يصعب تخييّل ذلك بمعزل عن تفكيك مكونات الهجين وإرجاعها إلى حالاتها قبل التركيب، لكنّ شتّان ما بين المركّب الكيمائي الثقافي وبين مكوّناته. فالتداخلات والتركيب اليوم بين الوسائل الناقلة للمعرفة جميعاً ووسائل أخرى، يجعل المنتج الجديد ذا خصائص منفصلة عن مكوّناته، فمفهوم الصورة في طور الأسطورة مختلفة مثلاً عنه في طور العلم، وممّا لا شكّ فيه أن مفهوم الصورة في الإعلام والتلفزيون هو غيره في عالم النت، حيث لا يمكن حصر قدرات وتأثيرات الانترنت بوصفها تمثيلاً وتطويراً لثقافة الصورة فحسب، لطالما بقي التأثير منذ انتشار السينما حتّى التلفزيونات ثمّ القنوات الفضائيّة عند حدود صانع مرسل وجمهور مستقبل، كلاهما له دوره ومكانه دون تتداخل بينهما، أمّا في الواقع الفضائي فالمسألة لم تعد مقصورة على مكانين، بل هو زمان ومكان واحد يلتقي فيها الجميع وبشكل استمراري، وهذا ما يمكن تسميته (بسيولة الزمان والمكان)؛ كما أن المرسل لا يتحكّم بعصمة ما يرسله حيث إن المتلقّي يشاركه إعادة الإنتاج، لذلك فإنّ ما يسمّى ثقافة الصورة تنتهي عند حدود الواقع الفضائي لتصبح جزءاً منه وفقا مفاهيمه التركيبية الجديدة، والتي تختلف سماتها وتأثيراتها عن سمات ثقافة المعرفة، وثقافة الصورة وإن كان لا شكّ يأخذ منهما ما يتلاءم مع أساليبه وإجراءاته اليوميّة، لكنّ وفق مفهوم الكيمياء، ومرّة أخرى حيث إنّ الهجين لا يمثّل مكوّناته.
إنّ فترة (مابعد الثقافة) بأبعادها وملامحها الموزّعة (القنوات الفضائيّة، شبكة الانترنت، مواقع التواصل الاجتماعي، إعادة إنتاج الثقافة، كيمياء المفاهيم والوسائل، الجمهور والواقع الفضائي، التماهي، سيولة الزمان والمكان، التحرّر من جوهر المعرفة والسلوك)كلّها إرهاصات تمهّد لجمهورية ثقافيّة رابعة ذات مفاهيم مغايرة؛ بعيدة عن حمولات الغايات التفسيرية والسلوكيّة التي أثقلت كاهل الثقافات الثلاث الكبرى: (الأسطورة، الدين، العلم)، وذلك باعتمادها –تلقائياً- كيمياء الثقافة وإعادة الإنتاج الثقافي بحيث التحرّر التامّ من قيود الحقيقة على مستوى الجماعات والجمهور بعد أن كانت مسألة التحرّر محصورة بالأفراد.
جدة
Yaser.hejazi@gmail.com