في خضم مزاج عربي ثوري الطابع، يزرع فينا المفكر اللبناني العريق علي حرب الرعب من الثورات، ومشاريع الإصلاح، والمبشرين الجدد، على نحو مثير للاهتمام. وفي مصادر شتى من إسهاماته - مثلا كتابيه: (أوهام النخبة)، و(تواطؤ الأضداد) -، يحاجج أن أصحاب العناوين الرنانة، والأفكار الكبرى : كالديمقراطية والإصلاح والوحدة وزوال الدولة، ما هم إلا باعة محترفون للأوهام. وعلى نحو مؤسف، جرت ترجمة هذه الأوهام على شكل انهيارات، وكوارث، وخيبات أمل شديدة الوقع. وفي محاولاتهم تطبيق أفكارهم الكلية تلك، لم يحصد ذووها سوى الفشل الذريع. إذ، وعلى مر التاريخ – لاسيما المعاصر منه -، لم يحسن المبشرون بالأمل إلا صناعة الحروب. ولم ينتج مروجو فكرة سيادة الحرية سوى دولا شمولية سحقت الفرد، ووأدت مؤسسات المجتمع المدني. ولم يفرز المعتقدون بنموذجية الديمقراطية، وأنها صيغة جاهزة وقابلة للتطبيق حرفيا، إلا الإخفاق في ترسيخ أي تقليد ديمقراطي، ولم يمارسوا أمرا عدا الاستبداد. وفي فكرة مذهلة، يبين علي حرب أن هؤلاء يعتنقون تصورات ما حول الأوضاع، ثم يحاكمون السلطات بناء على تصوراتهم تلك، وكأنها تنزيل مقدس، بينما في تصوراتهم يكمن أس الإشكال. بكلمات أخرى، تنحصر المعضلة في أفكارهم المسبقة التي ترتطم بالواقع، ويريدون تغيير الواقع وفقا لها. وبدوره، يهمس لهؤلاء أن عليهم – في الحقيقة - أن يعيدوا النظر في مفهومهم للسلطة، عبر هندسة تصوراتهم، وتغيير أفكارهم، وتخفيض سقف القداسة التي يمنحونها لها. وفي مفارقة ساخرة، يقرر علي حرب أن المثقف الذي يهاجم الأنظمة، والسلطات السياسية، يقترف ما تقترفه تلك الأنظمة والسلطات، حذو القذة بالقذة، عندما يتولى أيما سلطة. بل الأدهى، أنه في أحايين عدة، يصير أشد سوءا منها بمراحل. وبرغم قدم كتاباته هذه - نوعا ما -، لم يُغفل علي حرب التنويه إلى ما يجري من شجارات لا أخلاقية بين رموز المشهد، ورواد التغيير، وأتباع موضة الإصلاح. وعلى نحو خلاق، يستنبط العبر الكامنة، ويصف بدقة واقعهم، مؤكدا أن هؤلاء يشهدون بأنفسهم على أنفسهم. تحديدا، يوضح أن علاقاتهم البينية تنبني بالأساس على التسلط، والإقصاء، وممارسة العنف اللفظي وكيل التهم والسباب. لكن المفارقة أنهم يتغاضون عن كل ذلك، واضعين نصب أعينهم فقط القدح في السلطات. ويعزو السبب في ذلك إلى أنهم يخالون أن السلطة تجري ممارستها فقط في قصور الرؤساء، ومقار الزعماء، ودواوين الملوك. ولكن، أليست صفحة الفيسبوك، وحروف التغريدة، ومقطع اليوتيوب، والبرنامج الفضائي، أشد سلطوية من القصر والمقر والديوان ؟
إن بمقدور أي من المؤثرين، وعبر أي من هذه الوسائل، أن يقمع خصما له، بالضبط كما تفعل السلطة مع المحتجين في الميدان والشارع. وفي غير مرة، امتنع وزير أو مسئول ما عن الانخراط في برنامج مذاع، أو لقاء صحفي، فإذا بالإعلامي صاحب الشأن ينال من وطنية ذلك الوزير أو المسئول – المزايدة، واختطاف القيم، وتزكية الذات -، ويغرقه بسيل من التشهير عبر وسيلته الإعلامية – الحرب غير الأخلاقية، وادعاء الحرص على الصالح العام، والعزف على وتر المشاعر -. وفي هذا، ينتهي الإعلامي وكأنما هو رئيس لمجلس الشورى قد جاء لممارسة حقه الدستوري في محاسبة هذا الوزير أو المسئول في جلسة للمجلس، بيد أنه أبى الامتثال !!
ويتساءل علي حرب، كيف نفسر أن المثقف المنادي بحرية التعبير في مواجهة السلطة المستبدة يمارس السلطة على نحو أكثر استبدادا في قطاعه، أو نشاطه، أو عندما تسنح له فرصة تولى السلطة السياسية ؟ إن المثقف - الذي يمثل سلطة أهل الفكر - يكافح السلطة، ولكن بالسعي لإملاء سلطته المعرفية تحديدا. وإذا كانت مجابهة السلطات قد آلت إلى الفشل، وإذا كانت مشاريع التحرير السياسي والاجتماعي قد تبددت، فما يمكن لهم فعله هو تغيير مفاهيمهم للحرية والسلطة والمجتمع، وتعرية ما تنطوي عليه من الأوهام والتهويمات. إن الذين فشلوا في الذب عن الحرية في مواجهة السلطة كانوا – في حقيقة الأمر - جاهلين بالسلطة والحرية. أي أنهم فشلوا بقدر ما توقعوا إمكانية ممارسة الحرية بلا سلطة. وفي الختام، يطرح علي حرب أسئلة قلقة حول الحقيقة والواقع فيما يخص الفشل العملي في تنفيذ الشعارات : لماذا نطالب بالوحدة ولا نحصد سوى الفرقة ؟ لماذا نروج للحرية ولا نجني سوى القمع ؟ لماذا يظل الكلام عن الديمقراطية حبرا على ورق؟ لماذا يتفاقم التعصب الطائفي، أو الاستبداد السياسي، مع تنامي الحديث عن المجتمع المدني ؟ لماذا تأتي المعارضة إلى السلطة لكي تكفر كفرا بواحا ببرامجها ؟ لماذا يفشل التغيير في الظهور بعد تغيير الحكومات والسياسات ؟ لماذا تترجم مشاريع التقدم تقهقرا وعجزا ؟ لماذا لا يحسن المثقف ممارسة الديمقراطية داخل عالم ه الخاص وأعماله ؟ إنه وهم الفردوس المزعوم، والكمال الموعود. الفردوس الذي لا مكان له إلا في السماء، والكمال الذي لا وجود له إلا في أذهان الحالمين.
المملكة المتحدة
ts1428@hotmail -
@TarekAlseat