ربما ليس ثمة عبارة أكثر إرباكاً للبيوت السعودية من تلك التي يطلب فيها أحد أفراد العائلة بعضهم لكلمة «راس»، تبدو هذه العبارة باباً يفتح على جهنم الخوف والريبة والشك في الذات، سيستعد المطلوب لهذه الكلمة لكل شيء من الضرب المبرح إلى العنف اللفظي، ورغم أن هذه الكلمة تمر أحياناً كثيرة بسلام، فلا يتبعها سوء، إلا أن كلمة «راس» تبقى كلمة سرية لنوبة فزع سعودية.
السؤال عن لماذا يثير طلب الحوار بشكل انفرادي خوفنا يبدو سؤال جاهل، لا يمكن أن يوجه هذا الاستفهام لإنسان عاش داخل بيت وضمن عائلة لا تعرف أي معنى للفردانية والاستقلال الشخصي، بيوت تدجن كل أفراد الأسرة داخل الكيان الجماعة وتلغي أي فردية، فلا يبقى داخل أي إنسان شعور خاص وفردي فهو جزء من كل، اعتاد أن لا يكون ثمة أمر شخصي يعنيه دون سواه، لهذا طلب الكلام منه بشكل انفرادي يعني احتمال وجود شأن شخصي به ما يعني أنه خرج عن الجماعة ما يعني أنه ضل عن صراط العائلة.
الحوار على المستوى الفردي يشبه عزل سجين في حبس انفرادي، البيوت التي تكرس جميع أفرادها داخل الجماعة وتلغي كل الخطوط الفردية، تحتفظ بالسلطة في ذات واحدة وتكرس في بقية الذوات الانقياد والاتباع، تلغي كل الأصوات وتصادر أي شكل خاص وصورة مستقلة، تعيد تدوير الأبوية من الأب العنيف إلى أخ أشد عنفاً، في مثل هذه البيوت، يعيش الإنسان شعور السجين، ويكون أي طلب منه بشكل فردي باباً كبيراً واحتمالاً أكيداً لحبس انفرادي.
هذه البيوت تبدو الحالة الفردانية فيها حالة نشوز تتطلب بيت الطاعة، ولهذا أن يطلب الأب من ابنه العشريني أن يجيئه فرداً دون إخوته في مكتبه المنزلي، يشبه استدعاء سجين لمحقق، يشتعل الخوف في رأس الفتى الذي لم يصادفه منذ ميلاده أي حوار خاص مع والده، سيتذكر أن آخر مرة طلب فيها الأب أحد أفراد العائلة لمكتبه كان لنشوز طارئ تمت معالجته بأبوية تقليدية قتلت قلب وروح الناشز فتى كان أو فتاة، وربما كانت أمه التي يقبل يدها كما يقبل يد والده.
ثمة إرهاب نفسي في بيوتنا دائماً ما تكون كلمة «راس» هي شعلته الأولى، إنها إعلان سري للعائلة عن وجود نشوز من أحد أفرادها، إنه نشوز فردي، ثمة فردانية تتخلَّق فتهتز لولادتها سلطات أبوية وجماعية، ثمة إنسان يولد وسجان يموت في كل استقلال شخصي يحققه أحد أفراد العائلة، لا يولد الإنسان حراً في بيوتنا، بل يولد مستلب بعاطفة ونظام أبوي، وسيحتاج الفرد منا ليتحرر هالة تكسر قيوده الخفية، قيود التربية والتدجين الأسري المنظمة والمكرسة.
ليس من الصحي لمجتمع يحلم بالتغيير والتقدم أن يعيش أفراده في بيوت لها هذه الصورة من الإرهاب النفسي، وليس من الإنسانية أن يستمر الصمت عن هذه الصورة وهذه الأنظمة الأبوية العنيفة، لا لأنها تقتل بذرة الفردانية والاستقلال وكل احتمالات الإنتاج المعرفي والنفسي والجسدي فقط، بل لأنها تستلب حرية الإنسان وتحيله إلى بدائية التاريخ وسيطرة الجماعات التي أرّخت لأسوأ ظروف الحياة.
المسألة ليست في إشاعة ثقافة الحوار والدعوة إليها كحل سري، المسألة في الاعتراف بأن بيوتنا تحت سيطرة الأنظمة الأبوية هي ليست بيوتا، بل حالة تاريخية تشبه الحصون من الخارج والسجون من الداخل، ثمة انفصال بين البيت السعودي والعالم اليوم، العالم يذهب كل ساعة إلى حالة تواصل وانفتاح أكثر وأوسع وأسرع، بينما تذهب بيوتنا أبد العمر إلى حالة انغلاق أشد وأقسى وأطول.
الرياض