لا شك أن الساحة التشكيلية المحلية حققت حضوراً بين جمهورها، وعلى المستويات العربية والعالمية، بما تزخر به من أعداد كبيرة من التشكيليين والتشكيليات، وخصوصاً في السنوات العشر الأخيرة، مع ما يمكن توقعه من زيادة هذه الأعداد في الفترات القادمة نتيجة وجود أقسام التربية الفنية بالجامعات للجنسين، وللاهتمام الكبير على المستويين الرسمي والشعبي.
ونظراً إلى كثافة الأنشطة التشكيلية، التي لفتت الأنظار، وحركت الساكن للموهوبين أو ممتلكي القدرات التشكيلية للانضمام إليها، فإنها أصبحت في حاجة إلى إعادة النظر في تقييمها، وأهم من ذلك جانب لَمّ الشمل، في وقت تكاد تضيع فيه بوصلة تحديد الاتجاه؛ وذلك لجمع النخبة من هذه الأعداد. ويمكن تحقيق ذلك بتنظيم مهرجان أو ملتقى، يتم فيه تنفيذ برنامج متكامل، في فترة لا تقل عن خمسة عشر يوماً، يتمكن فيه المشتركون من الاستفادة مما يتضمنه من محاضرات وندوات وورش عمل وإقامة معارض واستضافة ورش لفنانين عالميين أو عرب من أصحاب الخبرات العالية والشهرة في أسالبيهم أو تجاربهم، مع ما يمكن أن يعد من جدول عمل يفتح المجال لأكبر قدر من المشتركين من خلال التصنيف؛ بحيث يمنح لكل فئة من الفئات في الساحة (العمرية أو أصحاب الخبرات أو الرواد)، لإحداث نوع من المنافسة بين كل فئة لاستخلاص المتميزين من الموهوبين وإلحاقهم بمن سبقوهم بالخبرات، ومنح الرواد أصحاب الأساليب الفنية فرصة تقديم خلاصة تجاربهم في معارض خاصة مع ما يمكن القيام به من إعداد معرض شامل للكل، يحدد فيه لكل فئة جناح خاص؛ ليتحقق الهدف من جمع مختلف الأطياف، ومنح كل فئة حقها، مع ما يقام على هامش المهرجان أو الملتقى من أجنحة لبيع الأدوات ومستلزمات الفنون وكتب الفنون التشكيلية بأسعار رمزية.
والفكرة ليست جديدة؛ حيث سبق أن قدمتها جمعية التشكيليين لوكالة وزارة الثقافة، وطُبّقت في العديد من الدول مع اختلاف الظروف وتراكم الخبرات التي تتعدى تجربتنا التشكيلية في جانب التعامل مع الساحة ومن فيها من التشكيليين وكثافة المختصين وأصحاب التجارب المتعددة بعد مراحل طويلة من الحضور والتنافس.
ومع تأخر تنفيذ فكرة ذلك الملتقى وتأجيلها إلى أجل غير مسمى فقد تحرك عدد من التشكيليين بجهودهم الخاصة لتحقيق هذا الحلم الذي يهدف إلى جمع التشكيليين في محيط واحد بعيد عن التكلف الرسمي، وبجهود خاصة، وقد تكون البداية فيها متواضعة في العدد إلا أن ما تحقق بعدها يعتبر إنجازاً يستحق التقدير والاهتمام، ونسعد بأن تكون هذه التجربة محور حديثنا هذا الأسبوع.
التنفيذ
لا شك أن تنظيم ملتقى بهذا الحجم والعدد والإمكانيات والدعم، الذي انتهى إليه في المحطة السادسة التي سنستعرضها ضمن المحطات التي مر به الملتقى، والتي لا تخلو من المغامرة التي رآها المنضمون للمحطات الست، مغامرة جميلة، وخصوصاً حينما تجتمع فيها الأضلاع الثلاثة (الإمكانيات، والقدرة على التواصل مع مختلف شرائح المجتمع التشكيلي، وأخيراً التنظيم الجيد)؛ ليتم ضمان تحقيقها الهدف. ونعني بالإمكانيات هنا (المكان)، وما يشتمل عليه من سكن وقاعات ورش العمل التي تسع للحضور من المدعوين، وتوفير أدوات تنفيذ الأعمال، سواء كانت تصويراً زيتياً أو رسماً أو نحتاً؛ فلكل منها خاماته وأدواته. مع ما يشتمل عليه المكان من مساحات مهيأة للقيام بتلك الورش من حيث اتساع المساحة والجو الصحي من تهوية وإضاءة وتكييف، وما سيتبع ذلك على هامش الملتقى من إقامة حوارات مفتوحة في فترات الاستراحة، تتضمن محاور وعناوين يرغب الحضور في طرحها بتأمين سبل الاستماع الجيد من صوت ومشاهدة للوثائق عبر أجهزة العرض. أما الجانب الآخر فهو القدرة على التواصل مع الآخرين من قِبل منظم الملتقى مع جانب الحضور؛ فالبعض قد حدد الأسماء اعتماداً على علاقات شخصية أو لتقارب المستوى الفكري والتقني، والبعض الآخر حاول قدر الإمكان أن يفتح المجال لأكبر عدد من الأسماء واضعاً في اعتباره تقريب التجارب وتنويعها، مع أهمية تجديد العلاقات بين التشكيليين دون النظر إلى أي تفاصيل أو مواقف. أما الضلع الثالث فهو جانب التنظيم الجيد، الذي يشكل أهم الأضلاع؛ ليكمل النجاح؛ فبدون تنظيم مدروس يشمل كل ما استعرضناه فلن يتحقق الهدف من إقامة الملتقى. وبالطبع هذا الأمر قد يتعرض لرسم بياني بين الصعود والهبوط في التجربة التي ما زال عمرها لا يتعدى ست محطات، ظهرت كل محطة بقدر من الاهتمام والحرص على أن تكون مكتملة الإعداد والتنظيم. وكون الملتقى يعتمد على جهود شخصية مع ما يتم من دعم من بعض المؤسسات ومباركة من الجهات الرسمية فإن الحديث عن النواقص أو التقصير ليس الأهم مقابل قناعة المشاركين في كل محطة بأن ما تم إعداده كان متميزاً، يزداد من محطة إلى أخرى، ونجزم بأن في المحطات القادمة الكثير من المفاجآت.
محطات ست لتجربة ناجحة
ومهما اختلفت الأخبار التي نُشرت حول أول ملتقى فهناك من أشار إلى أن البداية كانت في مرسم الفنان عبد العظيم الضامن في القطيف، وهناك من قال إنها كانت في الدوادمي في محترف الفنان النحات سعود الدريبي. ومع اختلاف تلك الأخبار حول البدايات إلا أنه لم يكن هناك أي ردود فعل أو اعتراضات نتيجة أهمية الفكرة وعدم الاهتمام بمثل هذه الشكليات؛ فالزميلان الدريبي والضامن عينان في رأس الفن التشكيلي، تُقدَّر جهودهما، ويحمدون على مساهمتهما بهذا التحرك والفكرة.
هذا الملتقى تواصل فيه التنافس الشريف نحو تحقيق خطوات تضيف جديداً، وتضفي وهجاً إعلامياً عليه؛ فقد كانت البداية في مرسم الفنان الضامن بعدد تجاوز الثلاثين تشكيلياً من منطقة الخليج وبعض الإخوة العرب في المنطقة الشرقية، إضافة إلى السعوديين من مختلف مناطق المملكة، تبعه لقاء في محترف الفنان النحات الدريبي بعدد لا يتجاوز ستة أسماء، وقد يكون ذلك لتباعد المسافة بين من تمت دعوتهم وقرب مسافات من شارك في الملتقى الأول. لم يستمر الانقطاع بين الملتقيات الأول والثاني والثالث إلا بضعة أشهر؛ حيث تم إعلان الملتقى الثالث في مرسم الفنان سعد العبيد في الرياض بعد تغيير الاسم إلى الملتقى التشكيلي العربي؛ ما أتاح الفرصة للعديد من التشكيليين العرب في المملكة، وخصوصاً بالرياض، مع من دعي من الخليجيين، بمن فيهم السعوديون، ووصل عدد المشاركين إلى ما يزيد على الخمسين تشكيلياً، مع ما أُضيف إليهم في الملتقى الرابع في منطقة حائل، الذي استضافه الفنان صالح المحيني، بحضور نخبة من المشاركين في الملتقيات السابقة، إضافة إلى عدد من التشكيليين في حائل. بينما استضاف مرسم الفنان التشكيلي صالح النقيدان في عنيزة الملتقى في دورته الخامسة، وجمع أسماء متميزة من التشكيليين ممن رافقوا الملتقيات السابقة وأسماء أخرى من القصيم؛ لتأتي المحطة السادسة التي استضافتها الدوادمي بتنظيم من الفنان النحات علي الطخيس، الذي بذل الكثير من الجهد مستخلصاً الإيجابيات من التجارب الخمس السابقة؛ حيث أضفى على الملتقى جديداً في جانب مساحة المكان والإمكانيات المتوافرة فيه، إضافة إلى حضور أسماء معروفة على الساحة لم يكن لهم حضور خارج مناطقهم ومدنهم؛ ما أظهر الملتقى السادس مختلفاً، وتلقى الإشادة والثناء.
المدعوون بين الخصوصية والتعميم
الحقيقة أن الساحة التشكيلية تستبشر بهذا التوجه رغم عدم شمولية الدعوات للكثير من منسوبيها تقديراً لظروف التكلفة التي يقوم عليها الملتقى. ونجزم بأن هذه الفكرة ستحمل الكثير من النجاح وملتقيات مماثلة يمكن أن تستوعب الكثير؛ لهذا يجب أن يستفيد المسؤولون عن الفنون التشكيلية من هذه التجربة، ويضعوا حلولاً تقرب مفهومها، وتعميم الهدف الحقيقي منها ودعمها؛ لتصبح ملتقى يقام في مختلف المناطق بحيث يكون كل ملتقى جامعاً التنوع في الأساليب والتجارب، ويدعى إلى كل منها فنانون من مناطق المملكة في وقت واحد، ويجمع في نهايته الإنتاج الذي أبدعه المشاركون فيه، والذي يختلف بطبيعة الحال عن الكيفية التي يقدم بها التشكيليون مشاركاتهم بالمعارض؛ فإقامة تلك الملتقيات التي يتبادل فيها الحضور تجاربهم ستكون نتائجها متميزة وذات مزيج جميل بين مختلف الأساليب لقرب الفنانين من بعضهم خلال تنفيذ لوحاتهم لإقامة معرض مشترك يتنقل في مواقع عدة.
تقريب وجهات النظر
أجمع التشكيليون ممن شاركوا في أي من تلك الملتقيات ومن خارجها على أن ما تحمَّله المنظمون من تأمين الإمكانات المادية والبشرية، التي كان لها الدور الكبير في تنفيذ المحطات الست، يحتاج إلى تطوير في سبل الاستمرار على تحقيق الهدف السامي من الفكرة المتمثلة في تقريب وجهات النظر بين التشكيليين المشاركين، وخصوصاً أنهم تم انتقاؤهم من مختلف المناطق، وهذا يجعلهم جسوراً للبقية في مناطقهم لنقل وجهات النظر المحققة لتقويم الساحة التشكيلية عبر ما يُطرح من محاور تختص بالفن، ولا تتجاوزه لقضايا شخصية، مع ما يمكن القيام به من جمع الأطراف المتناقضة في وجهات النظر على طاولة الحوار المفتوح لإزالة أي شوائب علقت بالساحة والخروج بنتائج وتوصيات متفق عليها، وبذلك يمكن أن تحقق تلك الملتقيات دورها المدني في دعم الجمعية أو الوكالة بعيداً عن الخروج بسلبيات لا يعلم إلا الله نتائجها السيئة للساحة وللتشكيليين.
توجُّه إيجابي ينتظر الدعم
هذا التحرك الإيجابي من هؤلاء التشكيليين، وما نتج منه من تنافس، أثمر عن ملتقيات متميزة، حركت الساكن، وجمعت الفنانين رغم تباعد المسافات، ولا يمكن أن تقف الجهات المعنية بالفنون التشكيلية دون النظر إلى كيفية الدعم ولو رمزياً، إضافة إلى ما تقوم به من حضور يمثله المسؤولون بوكالة الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة والإعلام، الذي لا يكفي ليُشعر هؤلاء المساهمين بهذه الفكرة وتنفيذها وأهميتها، بما يعطيها زخماً من الحضور والتفاعل، وليجد منظمو المحطات القادمة المجال للتفكير في كيفية تطوير الفكرة والأخذ بها وإضافة الجديد.
الخلاصة
نخلص إلى أن الساحة تنظر إلى هذا التحرك بعينَيْن: الأولى سعيدة، والأخرى حذرة. ومع ذلك فالأمل كبير في القادم منها، بطلب التعاون من الجهات الرسمية لحل إشكالات الدعم، ولتغطية التكلفة؛ فالفكرة ناجحة، والساحة في حاجة ماسة إليها، على أن يتم تطويرها.