«ها أنا مرة أخرى بين السماء والأرض، مرة أخرى أحلّق وحيداً في هاوية أفق مفتوح على عذاب تساؤلاتي»... أن تبدأ قراءة رواية بجملةٍ مثل هذه، وأن تنهيها بذات الجملة، يعني أنك عشت رحلة تمنيت أن تنتهي بذات الوقت الذي تمنيت فيه أن تبدأ، ويعني أنك عشت تجربة المنفى الذي بداخلك وتمتعت بتجربة منفى غيرك الذي هو أيضاً منفى داخلك، كما يعني أنك عشت تجربة رواية أثارت فيك التساؤلات بقدر ما قدّمت لك من أجوبة، ويعني أنك بحثت عن امتداد هذه التجربة في الواقع فوجدتها مازالت تجري في أشد النقاط سخونة في العالم الآن- واقع الربيع السوري الذي شهدته يتحرك على الورق عام 1980، ليتفجّر ربيعاً لم تشهد الثورات احمراراُ أشدّ في أزهاره عام 2011، ولتشهد ما يحدث من خلافات المعارضة السورية، وشخصياتها وأشباهها ومن استمرار أسطورة المقاومة لدى السجين المعارض رياض الترك الذي شاء الكاتب أن يضع اسمه الوحيد صريحاً كما أعلم في الرواية، وتراه يقاوم فناء شعبه بذات الروح في سجن الرواية كما في شوارع الانتفاضة، مجمّعاً ومقوّماً وناشراً بذور الأمل التي سرعان ما تتفتح تويجات تمدّ المظاهرات إلى جميع المدن السورية الصابرة تحت نار القتل...
رواية «سيدة الملكوت» المنشورة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت بنهاية عام 2006 للشاعر السوري المثنى الشيخ عطية، هي في الجوهر رواية حب مستحيل يستعيد الصراع الأول للأنوثة الكونية المقهورة مع الذكورية القاهرة، والآثار النفسية المدمرة التي خلّفها هذا الصراع داخل الرجل والمرأة كمنفى وجودي عميق، إضافة إلى كونها في المظهر رواية منفى سياسي، تجري فيه أحداث هذا الحب تحت ظل ملاحقة وسجن وقتل نظام استبدادي لمعارضيه، في ظل حرب مدمرة تضع شخصيات الرواية أمام خيارات مستحيلة.. ويبدو أن تناغم واقعية الرواية وشخصياتها التي تبدو مألوفة، مع أبعادها الأسطورية غير المألوفة، إضافة إلى حساسيتها التي منعتها في أكثر من بلد.. هي ما يجعل «سيدة الملكوت» روايةً إشكالية بكل معنى ما تصنعه رواية مثيرة من إشكاليات، وبالأخص على صعيد اليومي والميثولوجي، الشخصي والعام، النثري والشعري، المغلق والمفتوح في أدب وفن ولغة وبنية الرواية.. وكأن هذه الرواية التي تتدفق بجنون انثيال الذاكرة على مدى ثلاثمائة وعشرين صفحة، تقف على صراط المستحيلات، لتضع أبطالها وقارئها كذلك على هذا الصراط...
على صعيد اليومي والميثيولوجي، نشهد إشكالية الأم الكبرى عشتار مجسّدة برموزها في نورا- الفتاة اللطيفة المحبة التي تختار رجلها، وتنجب له ابناً وتنشر روح الخصب في ما حولها، لكنها تتحول إلى محاربة أمام غلوّ الإيديولوجيا الذكورية في قهر النساء.. لتستمرّ قصة الحرب في الإبن الذي يشهد دمار علاقة الحب بين أمه وأبيه، كإعاقة نفسية عن الحب يحاول تجاوزها باستعادة عالم الأنوثة الكوني وتتبعه حياً في تفاصيل الواقع، وبكفاحه من أجل الديمقراطية، ومناصرته للحركات النسوية، وترميم نفسه عبر ترميم الآخرين.
على صعيد الشخصي والعام، اكتشف الكثيرون إشكالية أن مسرح الرواية وأحداثها وشخصياتها يفصح عن سيرة الكاتب الذاتية سواء في عمله السياسي في دمشق، أو منفاه في باريس، أو عمله الصحفي بمجلة شهرزاد الجديدة في ليماسول تحت نار حرب الخليج الثانية، وردّ الكاتب عن كونه البطل الحقيقي لروايته بإشكالية أخرى في قوله: « إن اعتباري البطل الحقيقي للرواية يدفعني للغرور، كما سأحاول استغلاله لجذب أسراب المعجبات بشخصية هانيبال العابد الآسرة اللطيفة. لكنني وللأسف لست بطل الرواية، وهانيبال العابد هو بطل مركب من جميع شخصيات رفاقي وأصدقائي الساحرين الآسرين في المعارضة الوطنية الديمقراطية السورية، والذين أعتز فعلاً بصداقتهم، كما أشكر زمني على معرفتي بهم»...
على صعيد النثري والشعري.. أشار الناقد نديم جرجورة إلى إشكالية انتقال الشاعر إلى الرواية بقوله: «إن رواية «سيدة الملكوت» لا تكتفي بالنثر الأدبي مادة للكتابة، ولا بسرد مقتطفات من سيرة ذاتية خاصّة بالراوي، فهي، بتوغّلها في الذات ومشاعرها وحالاتها النفسية والجسدية، استعانت بمناخ الشعر المنثور وجمالياته أداة لمنح الوصف الإنساني والاجتماعي والذاتيّ ركيزة أجمل في التعبير عمّا يجيش في هذه الذات من غضب وخيبة وتمزّق وانكسار.. وهي، بجعلها الوصف الملطّخ بفضاء الشعر الوسيلة الأنجع لمقاربة الألم والتعب، أفسحت مجالاً أرحب للقول الأدبي المفتوح على عوالم وأسئلة ملتبسة ومعلّقة.. وإذا بدا الانتقال الأدبي من الشعر إلى الرواية سمة منتشرة في الأوساط الثقافية العربية، خاصة في الآونة الأخيرة، فإن «س يدة الملكوت» ظلّت «وفيّة»، إلى حدّ بعيد وجميل في آن واحد إلى الشعر، خصوصاً في لحظاتها الإنسانية المؤثّرة»...
وعلى صعيد إشكالية البنية الروائية فقد صممت «سيدة الملكوت» كبنية مفتوحة يجري فيها زمنان للسرد، زمن الواقع وزمن الطفولة، بتوازٍ في البداية وبتداخل بعد ذلك يصل إلى حدّ التماهي ليحدد مسار الشخصيات، وليفتح نهاية الرواية على بدايتها.. بأسلوب خاص يتداخل فيه السرد القصصي بالنثر الشعري وفقاً لتفاعل الأحداث والتوغل في أبعاد الذات...
وعلى صعيد التسمية.. فليس هناك أكثر إشكالية مما قاله الكاتب في لقاء له حول الرواية: «أعتقد أن هذا الاسم جاء ولا أعرف لماذا من اللقاء الغريب الأول لبطل روايتي بأمنا السورية الكبرى «ربة الينبوع» بعد ثلاثة آلاف سنة من انتظاره لها على شاطئ الفرات، كما أعتقد أن للتسمية علاقة بطفولة بطل الرواية وصراعات أمه المدمرة مع عالم الذكور. وأيضاً ربما لأن جيل السبعينات والثمانينات الذي تتحدث عنه الرواية والذي كان مشبوباً بأحلام التحرر وأسيراً لرغبات التملك في ذات الوقت ولا أعرف لماذا عاش استيهامات رومانسية صارخة في دمج الوطن بالحبيبة. وأيضاً ربما كان هذا لتقديري نساء الفرات والعاصي اللواتي يعرفن كيف يصفعن غلو الذكورة واستيهاماتها الخادعة ولا أعرف لماذا على هذه الصورة من العنف. وأيضاً ربما كان هذا على مستوى شخصي دفين محاولة مني في استعادة طفولتي وإعادة شقيقتي وصديقة طفولتي إلى الأرض بعد أن ارتفعت ولاأدري لماذا إلى سمائها.. لكن ربما لأنني التقيت بالفتاة التي أحببتها وأكملت حياتي معها لأول مرة في كنيسة السيدة العذراء بدمشق في الواحد والعشرين من آذار.. أو ربما هناك أسباب أخرى لا أعرفها»…
وعلى صعيد الختام: «تمرّ صورة نورا. أغرق في بحيرة عينيها وهي تضمني فيها بحنان. أسمع صوتها يطمئنني عنها عبر الهاتف. تقول إنها سعيدة الآن بعودتها إلى العائلة، وإنها ربما ستستقر مع يوسف في قبرص أو يعودان إلى سورية أو الأردن. توصيني أن أنتبه إلى نفسي وأقول لها ضاحكاً: حسناً يا أمي. أعتدل في مقعدي دامع العينين غارقاً في شلال صورها عارية القدمين على رمل الشاطئ، يترامى عند أصابع قدميها الموج، يقبّل قدميها الموج ولا يحتملُ، يذوب ويتلاشى. تضرب صدري بيديها دامعة العينين وضاحكةً. أمسك بيديها. تجلس مسترخيةً ناعسةً في حضن نبيذي. كم أحتاج إلى تقبيل نعاسك. تضحك بين يدي البحر على الطفل المقلوب بزورقه بين يديها. تخفي متمنعةً لمعةَ فضةِ قمرٍٍ ينسلّ ليسكن شفتيها، وأقول لها كدت أموت. تضحك دامعةً. تضرب صدري. ينجرح ندى الدمع وينساب على خديها. تتفلت من دفء يدي وأموت. تجلس هادئة، مستسلمة، كاملة بالقمر وبالبحر».
جدة