(1)
إن كانت السياسة تُعرّف بفنّ المُمكن، إذّاك فإنّ هناك ما يمكن تسميته: «الممكن السياسيّ»، وهو كثير ما يتقاطع مع الواقعيّة من جهة التنظير، وليس من جهة «طبيعة الواقع نفسه وقدراته»، فليس بالضرورة أنّ كل ما ينسب للواقع هو كلّ إمكاناته، وهنا محلّ الخلاف السياسيّ بين أيّ (سلطة ومعارضة)، فأيّ سلطة بوصفها قوّة تنفيذيّة لها (ممكنها) الذي بضوئه تُحدّد برامجها وطرائق تنفيذها. فهل للثقافة «ممكن» مختلف بوصفها نقيض السلطة؟ أليست الثقافة تشخيصاً (للممكن السياسيّ/ المفروض السلطويّ) بين المصادقة على المكتسبات/المنجزات وتثبيتها، وبين انتقاد السلبيّات والأوهام والمطالبة بإزاحتها، وأنّها تجتهد وفق قدرتها الفاعلة المؤثرة حتّى يتسنّى لها توسيع حدود الممكن وآفاقه، وتحريره من قيود الظرفيّة المُختلقة.
فإذا كانت السلطة تضييقاً للمُمكن ورقّاً له، فالتوازنُ في الثقافة كونها تفتيقاً للممكن وعتقاً له؛ ولا شكّ أنّي أقصد –هاهنا- الثقافة (المغضوب عليها)، بوصفها المراقب لأعمال السياسة: (السلطة والمعارضة معاً)، فهي المقاومة والمقوّمة للسلطة فكريّا، أخلاقيّاً، سلوكيّاً، وهذا ما يورّط المنشغلون بها –أحياناً- بدور طهرانيّ نظراً لمكانة وقيمة وظائفها.
من هنا فإنّ أعمال (المثقّف/العالم)، سلوكيّاته، رؤاه تعمل معاً في تفكيك (الممكن السياسيّ) الذي تعتمده السلطة في تحديد أولويّات استحقاقاتها، تفكيكاً لا يبتعد عن إمكانات الواقع يمكّنه من رسم «الممكن الثقافي» المتعارض مع محدوديّة ما يرسمه السياسيّ/ ويفرضه السلطويّ، تقييداً وترشيداً لطلبات المجتمع، فيظهر (ممكن آخر أكثر سعة وتعدّديّة) وفق القدرة والفاعلية والقيمة المناسبة.
وبين (ممكنين: سلطة وثقافة) تظهر الحاجة الجدليّة لإعادة تعريف الواقع وتوصيفه، فالإشكال ليس في الواقعيّة نفسها، بل في التلاعب بإمكانات الواقع ومقدّراته؛ وهو طبيعة جدلّة لطرفين يمارسان الاعتراض المتبادل على (تصوّر الممكن) لدى كل واحد منهما؛ فالمثقّف غايته اختراق مفهوم (ممكن السلطة) وزيادة آفاقه، والسلطة غايتها محاصرة مفهوم (الممكن الثقافي) وتسييجه.
وفي كلا الخطابين، فإنّ الجماهير الموجّه إليها (الممكن السياسي والممكن الثقافي) لاستمالتها تقف بين رؤيتين متعارضتين؛ رؤية تستنزف معنى الواقعيّة وتلوي أعناقها في سبيل تضيّق القدرة الإنجازيّة، وبالتالي تقليل حجم التزاماتها كسلطة تنفيذيّة، ورؤية تعيد معنى الواقعيّة وتغالي فيها بما يفجّر إمكانات الواقع في سبيل هزيمته وزيادة طلباتها في سبيل رقي المجتمع وخدمته.
من هنا، يبدو دائمًا أنّ الاختلاف أساسٌ في مفهوم الممكن، فالسلطة يُعينها انتشارُ (مفهوم الممكن بالحدود الدنيا) في جميع شرائح المجتمع، هدفاً منهما في تقليص التزاماتها وواجباتها، ثمّ تبرير وسائل المماطلة والتسويف، وتبرير الأحاديّة التي لا تتخلّص منها أيّ سلطة في العالم مهما كانت مرجعيتها السياسيّة. وتبدو مهمّة الثقافة –هنا- عسيرة جدّا، لا لكونها تواجه فقط السلطة بوصفها قوّة تنفيذية وتشريعيّة، بل لأنها تواجه أيضاً مجتمعاً تتفشّى فيه مفاهيم الممكن وفق ما زرعته السلطة نفسها، وذلك حينما يتسلّح (ممكن السلطة) بقوّة ذيوعه وانتشاره عبر إعلام السلطة، مدارس السلطة، ومثقّفي السلطة (البصّامين) حتّى يغدو نسقاً/عُرفاً لا يقهر.
أمّا (الممكن الثقافي) وهو الأكثر اتساعاً وآفاقاً، ولعلّه في بعض رؤاه يحتضن (المستحيل) أيضاً، لكنّ فاعليّته وتأثيره مرهون بالاعتراف به كنقيض في المجتمع مُتمّم للسلطة، وله حقّ ممارسة خطابه عبر قنوات أهليّة، بينما –هنا- يفتقر إلى وسائل تمكّنه من الذيوع والانتشار وبحال من الأحوال فإن السلطة لن تسمح له باستخدام قنواتها لأجل نشر مفهومه الخاص المتعدّد عن (الممكن)! أو نشر ما تظنّه السلطة (مستحيلاً)، أليس الثقافات الشعبيّة لا تعترف بحدود الممكن في خيالاتها، مخزوناتها القصصية، ملامحها البطولية، غرائبها العرفانيّة، وكذا سلوكيّاتها اليوميّة المتعلّقة بتلك الثقافة غير الممكنة (المستحيل).
أليست الأخلاق المدنيّة اليوم والمساواة في الحقوق والحريّات كانت مستحيلة في عصور الرقِّ، أليست الآلة ومشاع النت مستحيلات لامست خيالات الشعراء والعلماء في أزمنة غابرة، لكنّها بقيت ضمن المستحيل وليس ضمن الممكن.
فهل (أنا/أمضي) في الغلو إذا قلت إنّ الثقافة/العلم: هي (فنّ المستحيل)؟ فأين هذا المفهوم من ثقافتنا ومثقّفين؟!
**
(2)
هل لي -على ضوء مقدّمة المقالة- أنْ أفترض بأنّ ملتقى المثقّفين يندرج تحت (ممكن السلطة) فحين يصرّح مسؤولو السلطة: أنّ غاية الملتقى حشدُ المثقّفين للمصادقة على استراتيجيّة الوزارة الثقافيّة (الشاملة)، والتي لم يطّلع عليها أحد، أو ثلّة من المقرّبين.
(فممكن السلطة) بين لقاءين ظلّ كما هو، لم ينجز، وصادق عليه طائفة من المثقّفين الذين حضروا اللقاء الأوّل، وعجز المثقّفون عن الإتيان (بالممكن الثقافي) الذي يكون بديلاً تفاوضيّاً، وقوّة ضغط لتنفيذ السلطة وعودها، أمّا في ظلّ غياب (الممكن الثقافي) فإنّ السلطة تراخت حتّى عن تنفيذ (ممكنها) لتأتي به بعد سبع سنوات، وتحصل على مصادقة جديدة.
ماذا يريد المثقّف السعوديّ من السلطة؟ لماذا يبارك كلّ لقاءاتها ؟ كيف لا ينظر إلى وجوده -واعياً- إنّه وجودٌ مشروطٌ ذو قيمةٍ بفاعليّته الإنتاجيّة والتغييرية، أنّ وجوده ليس ذا نفعٍ إنّ لم يكن حريصاً على المشاركة في صناعة القرار، وأنّ المشاركة الفاعلة لا تكون (بالبصمة) على ممكن السلطة بل بمناقشة هذا الممكن وزيادة سعته. وإعادة تفكيك مفاهيمه بما يتناسب مع مفاهيم التعدّديّة والتطوير، وفق (الممكن الثقافي).
**
خرج علينا العديد من مثقّفي (السلطة) قبل مُلتقى المثقّفين، وباركوه قبل انعقاده، فماذا يبقى بعد ذلك؟ حيث إن الحكاية لديهم قد انتهت قبل أن تبدأ؛ والمنجزات تحقّقت بمجرّد التفكير بها. خرج (المهلّلون والمكبّرون) يباركون الجهود المبذولة في سبيل تأميم الثقافة، وهي التي أساسها: (أن لا تكون سلطة، أن تكون أهليّة، أن تكون تعدّدية، أن لا تؤطّر..) وإذ بهم –وغاية مناهم- يطالبون بوزارة مستقلّة للثقافة، مجلس أعلى للثقافة، اتحاد كتّاب أو رابطة (كتبنا مقالة بعنوان: اتحاد الكتّاب السعوديين؟ العقدة الرعوية للمثقّف السلطوي، قدمنا عبرها شكوكنا في قيمة هكذا مطلب؛ في الثقافية/هنا، العدد 356)، فهل هذه طلبات «الممكن الثقافي» الذي يعارض أو يوسّع «ممكن السلطة».
أزعم أن الثقافة عين أهليّة على أعمال السلطة، أنّها نقيضها، وأصلها مشروع أهليٌّ فلماذا يسهم المثقّف السلطوي بنفسه لتأميم هذا القطاع (المنبوذ)، الذي له أهله في القطاع الخاص إن رفع الحظر الإيهاميّ المعنويّ، والذي تشيعه ممارسات الرقابة التي يغفل المثقّفون عن مناقشة جدارها الرجعي بوجه أي مشروع ثقافيّ يعوّل عليه.
**
حسناً إذن: سلطة بأجندتها وتحضيراتها ورجالها، وألف من المثقّفين والأدباء والتشكليّين والفنّانين وأربعة أيام ثمّ (18 توصية)، لا تجد فيها فقرة تخصّ مناقشة الرقابة والتخفيف من قيودها وترسيم ضوابط لها ترضي الطرفين: (السلطة والمثقّفين) في مرحلة أولى على الأقل، ولا تجد فقرة تتعلّق برفع الحظر عن كتب السعوديين التي في المنفى، أو فقرة لمنح التراخيص لمراكز ثقافيّة أهليّة، هكذا يتّضح أكثر أنّ المثقّفين أنفسهم هم المسؤولون عن ضياع الثقافة، بتفريطهم المستمرّ بوضع «الممكن الثقافي» الذي يمكنه أن يُحرّر الثقافة والمثقّفين، ويمنحهم استقلالهم المشروع كنقيض معترف به ومُتمّم للسلطة.
جدة
Yaser.hejazi@gmail.com