الإعلان ليس بالضرورة أن يُكسب المُعَلن عنه قيمة مضافة قدر ما يلفت الأنظار إليه، وهذا ما كان يوم أعلنت اليونسكو: «العربية» لغة عالمية، فرحتنا النخبوية بهذا الخبر لم تتجاوز تبادل التهاني، دون أن نقدم للغتنا ما تستحق من عناية واهتمام، وبموازاة ذلك انبثق الإعلان في ظل اندفاعنا المبالغ فيه لتعلم اللغات الأجنبية، التي بتنا نكرس تعليمها على حساب لغتنا وإن أبينا الاعتراف بذلك، خاصة إقبالنا على «الإنجليزية» التي يبدو أن تعلمنا لها -أحيانًا- بلا هدف، سوى انحيازنا لجعل الوسيلة غاية، ونسياننا الهدف الذي من أجله تعلمنا هذه اللغة أو تلك، ولا تسل عن التعريب والترجمة لأن جوابهما مخيب للآمال، لا أعني ترجمة القلة القليلة جداً من الروايات وكتب المقبلات الثقافية، وإنما كتب العلوم التطبيقية، والنظرية، والطب، والهندسة، وكل ما نحتاجه لتقدمنا وللحاقنا بالعالم المتقدم، كم هو مؤسف أن تنجح دولة فاقدة للشرعية كإسرائيل وهي التي كانت دولة بلا شعب وشعب بلا لغة في تحرير لغتها «العبرية» من تلموديتها لتجعلها لغة رسمية، ولغة للعلم والتقنية والحضارة، فيما ننصاع نحن لتخاذلنا عن الاهتمام بلغتنا زاعمين عجزها عن اللحاق بالحضارة والمدنية والتقنية!
الحديث عن «العربية ليس بكاء على الأطلال، ولا حديث عاطفة تجتر الماضي لتنبت عن الواقع، بل حديث الموضوعية موصولاً بالحاضر ممتدا للمستقبل، ولو أردنا التحدث بتفاؤل وفي حدود الممكن عما يمكن عمله للنهوض باللغة العربية لتأخذ مكانها اللائق، ولتقوم بدورها الفاعل كلغة عالمية فها هنا عدة أسباب كفيلة بجعلها لغة عالمية، لا شعاراتيا كما هي الآن، بل عمليًا إذا صح منا العزم؟!
أول هذه الأسباب أنها -بحسب ويكبيديا- لغة يتكلمها نحو 422 مليون عربي، وثانيها أن «العربية» هي اللغة الرسمية لثنتين وعشرين دولة ممتدة من الخليج إلى المحيط، وإذا كان انقسام العرب عائقًا أمام تطلعاتهم للوحدة إلا إن «للعربية» ميزة، كونها لغة هذا الكم من الدول، وهو ما لم تحظ به أي لغة حول العالم، إضافة إلى وجود إثنيات عربية تتكلم العربية ضمن دول غير عربية، كعرب الأحواز في إيران، والعرب الموجودين في الجنوب التركي، وفي دول إفريقية كإرتيريا والسنغال وغيرهما، ومن الأسباب أيضا كون حروف اللغة العربية هي الحروف المستعملة للغات شعوب ودول كبيرة، منها اللغة الأردية، والفارسية، المستعملتان في كل من: الهند، وباكستان، وبنجلاديش، وأفغانستان، وإيران، ومن العوامل المفصلية لعالمية «العربية» كونها اللغة المقدسة لأكثر من مليار ومائتي مليون مسلم، غالبيتهم العظمى لا يؤدون فرائضهم الدينية اليومية إلا باللغة العربية، وإذا أضفنا إلى ذلك الأعداد التي لا حصر لها من المسلمين المتطلعين لزيارة الحرمين الشريفين للحج والعمرة فنحن بإزاء حافز قوي لتعلم «العربية» كونها لغة البلاد التي يؤمونها في زياراتهم الدينية المقدسة، وأخيرًا الكم الهائل من اليد العاملة الأجنبية التي تعمل بالدول العربية وخاصة دول الخليج، وهي عادة تكتسب اللغة بحكم المشافهة، وبقليل من الاهتمام من الممكن أن نسهم في جعل تعلم العربية بالنسبة لهم مطلبًا شخصيًا إذا عرفناهم بأهميتها لهم كلغة عالمية.
الإنجليزية كلغة لم تنتشر حول العالم لكونها لغة فاتنة تملك من مقومات الجذب والفاعلية ما تفتقده سائر اللغات، وإنما لكونها لسان بريطانيا العظمى التي كانت ذات زمن تهيمن على ما لا تغيب عنه الشمس من المعمورة، وحين بدأ نفوذها في التراجع مع النصف الأول من القرن العشرين خلفتها الولايات المتحدة الأمريكية، التي تتكلم ذات اللغة، ولو كانت بريطانيا وأمريكا تتكلمان اللغة السواحلية لكانت هي اللغة الأشهر عالميًا، وأحسب أن في هذا ما يكفي ليجعلنا نهب لغتنا كل ما تستحقه من اهتمام، لأن علوها علو لنا، وضعفها وتراجعها ضعف لنا وتراجع!
الدمام