لم ينفرد كريستوفر ميلتشرت ونمرود هورفيتز بدراسة الحنبلية المبكرة؛ فهناك مساهمات عديدة لبعض علماء الاستشراق سواء بترجمة بعض النصوص المبكرة للمذهب الحنبلي، أو تخصيص دراسات أو فصول من بعض الكتب لبحث تعاليم المذهب ونشأته ورجاله. ومن ذلك دراسة سوسن سبيكتورسكي، وهي بالمناسبة من أواخر تلاميذ المستشرق الكبير جوزيف شاخت إن لم تكن آخرهم. فقد نشرت سبيكتورسكي كتاباً بعنوان: «فصول من الزواج والطلاق: مسائل أحمد ابن حنبل وإسحاق ابن راهويه» (1993) ترجمت فيه الفصول المتعلقة بالزواج والطلاق من ثلاث مجموعات للمسائل هي مسائل الكوسج عن أحمد ابن حنبل وابن راهويه، ومسائل عبد الله وأبي داود عن أحمد، وقدمت للكتاب بمقدمة قصيرة. وسبق لسبيكتورسكي كتابة دراسة قصيرة عن فقه أحمد ابن حنبل (1982) وهي دراسة عن منهجه في الإجابة عن المسائل.
كما كتب المستشرق الأمريكي مايكل كوبرسون كتاباً عن فن السيرة التقليدية: ورثة الأنبياء في عصر المأمون (2000)، وقد تُرجم الكتاب إلى اللغة العربية ترجمة متوسطة عام 2005، حيث عرض كوبرسون في الكتاب لأربع شخصيات في عصر واحد هي المأمون بوصفه خليفة المسلمين، والإمام الرضا لكونه إمام الشيعة، وأحمد ابن حنبل ممثلاً لأهل الحديث وعلماء الأثر، وبشر بن الحارث الحافي عن الصوفية. وفي الفصل المتعلق بأحمد عرض كوبرسون للروايات الحنبلية عن تقوى الإمام وعن محنته. كما ناقش التعارض بين الروايات الحنبلية ورواية الجاحظ فيما هل أقر أحمد ابن حنبل تحت الضرب بأن القرآن مخلوق أم لا. واعتمد كوبرسون على المصادر الحنبلية المبكرة مثل كتاب الورع لأبي بكر المروذي، وسيرة أحمد لابنه صالح، ومحنة الإمام أحمد لابن عمه حنبل بن إسحاق. كما استفاد بشكل كبير وذكي من أعمال علماء معاصرين مثل يوسف فان إس وكريستوفر ميلتشرت. إلا أن الجزء الأكثر أهمية وطرافة في دراسة كوبرسون -في وجهة نظري- هو الفصل الذي عرض فيه للعلاقة بين أحمد ابن حنبل وبشر الحافي، وهي القضية التي أفرد لها كوبرسون دراسة كاملة (نشرت عام 1997). فمع أن العالمين الزاهدين كانا متعاصرين في مدينة واحدة ويعرفان بعضهما، إلا أنهما -كما يرجح كوبرسون- لم يلتقيا بصورة شخصية إطلاقاً. كما تحدث كوبرسون عن الفرق بين زهد أحمد وزهد بشر الحافي، ورأي كلا الرجلين في الآخر.
أما المستشرق الكبير مايكل كوك فقد أفرد للحنابلة أربعة فصول كبيرة في كتابه الشهير الأمر بالمعروف والنهي المنكر في الفكر الإسلامي (2001). يتعلق الفصلان الأولان بالحنابلة المتقدمين؛ فالأول اهتم بأحمد ابن حنبل، بينما كان الثاني عن الحنابلة في بغداد. وقد درس المؤلف التنظير الفقهي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند أحمد وأوائل الحنابلة؛ فإنه قدم أيضاً عرضاً لكيفية ممارستهم العملية لهذه الشعيرة. كما عرض للعلاقة بين الحنابلة وغيرهم من المذاهب والفرق الأخرى، وكذلك العلاقة بين الحنابلة والسلطة في بغداد.
وبالنسبة لتوماس سيزوقيرتش (ت. 2011) فقد كتب فصلاً جيداً حول آراء أحمد ابن حنبل في غير المسلمين وكيفية التعامل معهم ضمن الدولة الإسلامية. ومع أن سيزوقرتش لم يكن مختصاً بدراسة أحمد؛ إلا أنه أشار بذكاء إلى نقطتين بالغتي الأهمية لم يتناولها الدارسون بالبحث. الأولى: حول «المرابطة على الثغور الإسلامية» والمجموعات القتالية-الدينية التي تكونت هناك، وأهميتها في فهم تكون جماعة أهل الحديث والحنبلية بعد ذلك، بالإضافة إلى علاقة أحمد بهذه المجموعات. والنقطة الثانية: هي الأثر الكبير لعلماء الحديث المجاهدين على أحمد ابن حنبل، وتحديداً عبد الله بن المبارك وأبو إسحاق الفزاري. وقد طبع كتاب سيزوقرتش بعد أشهر من وفاته عام 2011.
أما ترجمة الإمام أحمد في الموسوعة الإسلامية فكما سبق في مقالات سابقة؛ فقد كتب غولدزيهر ترجمة أحمد في الطبعة الأولى من الموسوعة، أما الطبعة الثانية فقد كانت الترجمة من نصيب لاووست. أما الطبعة الثالثة، التي ما تزال في بداياتها، فقد كتبت الترجمة ليفانت هولتزمان، وللأسف فهي ترجمة أقل أهمية من ترجمتي غولدزيهر ولاووست. ولعل مرجع ذلك إلى أن هولتزمان غير متخصصة في أحمد ابن حنبل والحنبلية المبكرة (هي متخصصة في ابن قيم الجوزية)، وهذا قادها إلى الوقوع في بعض الأخطاء كان المفترض أن لا تقع فيها. فمن ذلك أنها ذكرت أن كتاب الرد على الزنادقة والجهمية لا تصح نسبته إلى أحمد ابن حنبل (وهذه ملاحظة صحيحة)، إلا أنها عادت وذكرت أن أحمد اعتمد على بعض الحجج العقلية، وأحالت في ذلك إلى كتاب أستاذها بنيامين إبراهيموف. ويبدو أنها نسيت أن إبراهيموف بنى هذا الزعم على كتاب الرد على الزنادقة والجهمية. كما أنها نسبت كتاب الورع إلى أحمد ابن حنبل، وهو في الحقيقة من تأليف أبي بكر المروذي (الذي كتبته خطأ المروزي). والملاحظة الأهم على مقالة هولتزمان أنها متأثرة كثيراً بدراسات نمرود هورفيتز التي سبق الحديث عنها.
وختاماً، فلا يمكن الحديث عن نشأة الحنبلية دون العروج على دراستين مهمتين. الأولى لإيرا لابيدوس بعنوان «الفصل بين الدولة والدين في سياق تطور المجتمعات الإسلامية المبكرة» (1975)، فقد ذكر لابيدوس أن نشأة الحنبلية مثلت الخطوة الثالثة في مراحل الفصل بين الدولة والدين في الحياة العامة للمجتمعات الإسلامية المبكرة، وربطها بالخراسانيين الذين سكنوا بغداد وقد حملوا معهم إرثهم الديني المستقل، وطبيعتهم الثورية المتمردة.
فقد ربط لابيدوس بين نشأة الحنبلية وبين الخراسانيين الذين استوطنوا بغداد في منطقة الحربية. وعلى هذا فيرى لابيدوس بأن حركة «المطوّعة» التي ظهرت في بغداد خلال الحرب الأهلية بين المأمون والأمين إنما ظهرت في هذه المجموعة، التي كانت بعد ذلك بذرة نشوء الحنبلية.
وفي عام 1990 نشر المستشرق الشهير أولفريد ماديلونغ مقالة يرد فيها على فكرة لابيدوس حول نشأة المذهب الحنبلي. وقد اعتمد دفاع ماديلونغ وبشكل كبير على أن سهل بن سلامة -أحد أهم قادة حركة المطوّعة- كان معتزلياً مما يعني استبعاد أية علاقة له بالحنابلة. بل يذهب ماديلونغ بعيداً في فكرته إلى حد الزعم بأن الحنابلة إنما خرجوا من الأوساط التي كان سهل بن سلامة وأتباعه يحاولون حماية أنفسهم منها. الجدير بالذكر أن مقالتي لابيدوس وماديلونغ سبق ترجمتهما إلى اللغة العربية ونُشرتا في مجلة «الاجتهاد».
بريطانيا