أقبل المثقفون على ملتقاهم الثاني وهم في حالة من الاحتقان فراحوا يرددون على لسان رجل واحد: «ما جدوى هذا الملتقى، وما الذي يسجنيه المثقفون منه؟» جاء هذا التوجس سابقاً لانعقاد المؤتمر، فقد وقعت التوقعات من انعدام جدواه في أنفسهم موقع اليقين، فأصدروا أحكامهم المسبقة: التكرار والملل والفشل، من قبل بدء الفعاليات، فما كان من جدوى لحضورهم أصلاً.
لكن المثقفون والحق يقال، حريصون كل الحرص على حضور الملتقيات، ربما ليكونوا شهود عيان ومصادر موثوق بها حين إعلان الفشل: نعم! كنا هناك وشهدنا الملل والتكرار والفشل. وحين تسألهم عن السبب الرئيس لهذا السقوط المتكرر لكل ملتقياتنا، ستجد الجواب الجاهز: ما قيمة الملتقيات إن لم تحقق التوصيات؟ هكذا تظهر معادلة النجاح إذا ً: ملتقى ناجح = توصيات متحققة.
لكن هل صحيح أن الهدف الوحيد من عقد مؤتمرات وملتقيات هو الخروج بتوصيات وانتظار تنفيذها كلها إلى حين الاجتماع اللاحق، حيث يتم الاحتفاء بالانجازات ثم وضع توصيات أخرى والمطالبة بتنفيذها جميعاً.. وهكذا؟؟ في اعتقادي أن هناك أهدافا أخرى عديدة مرجوة من الملتقيات إلى جانب التوصيات، وأن هذه التوصيات ليست أوامر تلزم التحقيق على طريقة أطلب واتمنى، وإنما هي رؤى ومطالب تتم الاستنارة بها في وضع استراتيجيات لاستمرارية المسيرة التنموية.
تنبثق فكرة الملتقيات من القيمة الأعلى والأسمى وهي التعارف: قيمة كونية سامية تستمد قوتها وجوهريتها من التوجه الرباني في قوله سبحانه وتعالى: « وخلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..» لو تحققت هذه القيمة وحدها لكفت ملتقى المثقفين وملتقى الأدباء أهمية وجدوى وفاضت. داخل إطار هذا التعارف تتشكل أهداف أخرى، منها: التواصل الفكري بين المثقفين والتعرف على اهتمامات بعضهم البعض واكتشاف تقارب الحقول الثقافية التي تجمع بينهم وكسر الحواجز واختصار المسافات الفاصلة بينهم وتبادل الخبرات والخروج بمشاريع ثقافية وطنية مشتركة على مستويات ثنائية وجماعية بعيداً عن خطط المؤسسة.. وغير ذلك من الانتفاعات المعنوية والفكرية.
أما أن نقلص كل الجدوى في مطلب واحد ونصر على تحقيقه فوراً وإلا.. ففي ذلك تجميد لكل حراك وتقليل من شأن كل نشاط إلى أجل غير مسمى. وهذا المطلب المقلص لما سواه فهو ما يلح عليه الكثير من المثقفين وكأنه مفتاح الكنز الثقافي الأكبر الذي أصبح يؤرقهم إلى درجة أنهم يرددونه كلما لاح في الأفق أي تحرك لوزارة الثقافة: المثقفون يريدون اتحاداً أو رابطة أو جمعية للأدباء أو للكتاب أو للمثقفين يكون - كما يصفه زكي الصدير- « مظلة مدنية لهم تقيهم أذى المطر وهواجر الصحراء». (الشرق ??-??-????). كل (أو) كتبتها هنا مقصودة تماماً، فالمقالات التي قرأتها والمحاور التي اطلعت عليها وردت فيها واحدة من هذه المفردات، ليظهر لنا أنه ليس هناك اتفاق مبدئي على تسمية هذا المطلب ولا على نوعية المشتركين فيه، أما هلامية المظلة وغموض «أذى المطر وهواجر الصحراء»، فهي دليل على عدم اتفاق آخر على الأهداف المرجوة من هذا المطلب.
لماذا يريد المثقفون اتحاداً لهم؟ بحثت عن الأسباب والدوافع والاحتياجات، فوجدتها مجتمعة بأغلبية الأصوات حول ضرورة مماثلة التجارب العربية الأخرى، فلماذا نعاني نحن من غياب ما يتمتع به الآخرون؟ وأتعجب مع الأستاذ ياسر حجازي من هذا الاصرار على اتحادات لم تثبت جدواها « ولا شئ في سيرتها يشفع لها»، وأتساءل معه « أحتميّة أن نمرّ بكلّ مرحلة مرّ بها الآخرون»؟ (الثقافية، 20 - محرم - 1433)
أما الفوائد التي يطمح إليها مثقفونا من اتحادهم فتتلخص في أن يكون لهم تمثيلا رسمياً في الجمعية العمومية لاتحاد الكتاب العرب يضمن لهم حق التصويت بها بدلاً من حضورهم كضيوف شرف فقط، وأن يكون هذا الاتحاد هو الجهة التي ترشح ممثلي الأدب السعودي في الخارج. لنقل أن هذه أهدافاً جيدة ومفيدة، لكن هل نستطيع القول حقاً بأن هذه الأهداف تستحق كل هذا اللغط والتشاؤم المصاحب لكل ملتقى إلى حين تحققها؟؟
ويشهد نص مشروع اتحاد الكتاب السعوديين الذي انتهت صياغته وتم عرضه على مجلس الشورى من ثم تحويله إلى جهة الاختصاص بوزارة الشئون الاجتماعية منذ ست سنوات، يشهد أن التشابهات والتقاطعات بين بنوده وبنود لائحة الأندية الأدبية تبطل المطالبة به، بمعنى أن ما سيحققه الاتحاد لا يبتعد كثيراً عما تضمنه لائحة الأندية الأدبية حرفياً. (نص المشروع: الرياض الأربعاء 01 شعبان 1425العدد 13235) http:www.alriyadh.com-Contents-15-09-2004-Mainpage-Thkafa_13885.php
لماذا إذاً لم يبتهج المثقفون كثيراً بما جاء في لائحة الأندية الأدبية فنفروا منها وعزفوا عن مكاسبها من عضويات جمعيات عمومية وانتخابات ما داموا في واقع الأمر يتحرقون شوقاً لعضويات وتصويتات جمعية اتحاد الكتاب العرب؟ وفي محاولاتها المتكررة لكسب رضا المثقفين وإثبات حسن النية تجاههم، هل ستخضع وزارة الثقافة والإعلام لضغوط المطالبات بهذا الاتحاد وتسعى جاهدة لتحقيقه على وعسى يجدون لها ميزة واحدة تُحمد عليها؟
أرجو أن تكون الوزارة قد حصنت نفسها ضد هذا المطلب وأن تكون التجربة المريرة التي مرت بها العملية الانتخابية ومنح العضويات تجربة كافية لكي تضرب عنه صفحاً، ليس كنوع من العقاب للمثقفين، ولكن لكي تغلق باباً جديداً للجحيم. أستطيع أن أتصور ذلك اليوم الذي تبدأ فيه طلبات العضويات، فيهرع كل مثقف إلى مكتبته الخاصة متحصناً بقائمة قراءاته وهو يردد شامخاً ومتعالياً: « أنا مفكر حر ومستقل يرفض المأسسة». ويقع عبء التصنيف بكامله على كاهل الوزارة مرة أخرى ثم تتلاحق الأسئلة وتتوالى الطعون: من هو المثقف؟ من هو الأديب؟ من هو الكاتب؟ هل تقبل عضوية المرأة؟ ما هو معيار استحقاق العضوية؟ كيف سمح لتيار بعينه أن يسيطر ويهيمن؟ من يرأس الرابطة؟ ما هي مناصبها؟ أين دعمها المادي؟ هل الاانتخابات نزيهة؟ تصويت ورقي-الكتروني؟ نتائج مخيبة للآمال؟ اختطاف اتحاد الكتاب؟
أتمنى فعلاً أن تستعصم الوزارة بإيمانها فلا تلدغ من الجحر مرتين، ولتعرف جيداً أن المثقفين كلهم يفاخرون باستقلاليتهم، كلهم في حقيقة الأمر يعتزون بحريتهم، لذلك فإن مأسستهم تعني عبوديتهم، هم أصحاب ابداعات حرة لا تحيا ولا تنمو إلا وهي طليقة، لذلك فهم لا يريدون رابطة تربطهم. المثقفون يقدسون فرادانيتهم وانفرادهم وتفردهم لذلك فهم رافضون أن يكونوا أعضاء متماثلون في جمعية تجمعهم مع غيرهم. كذلك فإن المثقفين يؤمنون بخصوصية تجاربهم المعرفية، وبضرورة انقطاعهم وانعزالهم لاكتمال التجارب الابداعية الوحدانية، لذلك فهم سيعرضون حتماً عن اندماجهم في أي شكل اتحادي شمولي.
دعونا بالله عليكم من هذا الصداع الاتحادي المتكرر. التوصيات مهمة وضرورية، لكن لتكن توصيات عملية وقابلة للتنفيذ، مشاريع ثقافية متنوعة، برامج، رؤى، تعارف وتبادل ونماء. ثم لنجد الطرق التي تجعلنا نحن كمثقفين قادرين على تنفيذها بدلاً من إلقاء المهام الصعبة على عاتق الوزارة وحدها، فإما أن تكون لنا كخاتم سليمان وتنفذ مطالبنا كلها، وإلا وصمنا تحركاتها كلها بالفشل.
جدة
lamiabaeshen@gmail.com