يقدم الكاتب والقاص فرج مجاهد عبدالوهاب من خلال مجموعته القصصية الجديدة «أحلام عاجزة» إضمامة من الحكايات البيئية الشيقة.. تلك التي تتعالق فيها رؤى السرد مع كل ما هو بسيط، تغلب عليه روح التميز والطرافة، فالحكاية في كل قصة من هذه القصص ترد بشكل حاذق ودقيق لكي لا تخل في سياق كتابة النص القصصي الحديث.
فجلُّ القصص تتكئ على الحكاية ومداولاتها، مما يجعل الكاتب يمعن في دفع شخوصه وأبطاله من أجل استحضار صور السرد وعناصر القص بحرفية متناهية، إذ لا يطغى مذهب فني على الآخر، وإن غَلَّب الكاتب رؤية الحكائية واستوحاها في كل مشهد من مشاهد قصصه التي يدور محورها على الإنسان وقضاياه.
فقصة الاستهلال الأولى «عم عبدالباقي» تعكس ولع القاص في استقصاء أدق تفاصيل الحياة في حياة قرية من قرى الريف المصري، حيث يسعى قلم فرج إلى تغليب رؤية أو فرضية أن الحياة ستظل محتفظة ببريق براءاتها رغم تحولات الزمن.
لنراه وقد سرد بافتتان عجيب تفاصيل حكاية شيخ المدافن اللحاد عبدالباقي، فلم يترك أي شاردة أو واردة في تفاصيل الحكاية إلا وعمل على استحضارها حتى اسم عبدالباقي تخلق من أصوات من حوله من بقايا أحياء يحملون موتاهم، وكأنه ينقل لنا صورة تاريخ الحياة والموت كاملا غير منقوص، حتى نصل إلى المفارقة العجيبة أن هذا اللحاد لم يجد ما يهيئه لمهابة الرحيل بعد موته، ليسعى البعض في القرية أو المدينة إلى استقدام لحاد آخر وكأنه عمل طوال حياته على أن لا ينافسه أحد عليها..
وما سر اختفائه وحضوره إليها إلا رسم عميق لتفاصيل حدسه في النهايات التي لا يمكن إلا وأن يضعها له دون تدخل من أحد حينما يجدونه وقد عانق الموت تحت سقيفة المقبرة «التكعيبة» وما حولها من شجيرات وبقايا عدد وأدوات يكرم فيها الموتى حينما يعبرون إلى نهاياتهم تحت يديه.
وحينما نهرع عن هذه القصة التي حاكها فرج مجاهد نلج في النصوص المتتالية إلى عوالم أخرى يكشف فيها مزيداً من الصور الإنسانية المعبرة حتى أنه انهمك وبطريقة شيقة في اقتفاء تفاصيل الإنسان ورسم صوره وكأنك تجلس قبالة «عبدالمعطي» بطل قصة «سحب الدخان» بل وتحدثه فيما يجول في خياله وأنت تشرب الشاي الذي صنعه بيديه لك ليسرد أطرافاً من حكاية الزمن ومواقفه.
يسير نهج القصص إلى الحديث عن واقعية ما يسرده الراوي، بل نراه وقد مال إلى معالجة آنية صرفة لا تخضع لمعيار فن التحرز لدى الكاتب إنما جعلها شهادة عابرة، على نحو قصة بنكهة التقرير «ابتسامة مجهضة»، تلك التي أراد لها الكاتب أن تكون استعراضاً تاريخياً متباعداً حاضنه الوحيد حكاية النادل في المقهى وابتسامته المجهضة لفرط عناء يعيشه ذلك الرجل الستيني.
في قصة «أحلام عاجزة» التي حملت اسم المجوعة يبحر فينا القاص فرج مجاهد عبر حكاية الإنسان الذي يفقد في رحلة البحث عن القوت أعز ما يملك وهي اليد التي بترت، ولم يجد حتى اللحظة أي أمل في وجود طرف بديل يقوم مقامها.
فالقصة عمدت إلى التقشف والاقتضاب بغية وصول الفكرة إلى القارئ بأقصر السبل وهو ما نجح فيه الكاتب حينما صور المشهد العام للفقد وما يرتبط فيه من معاناة أليمة ربما أطرفها وأكثرها عمقا حينما فقد العامل يده في أحد أخطاء المصانع فكان الخاتم الذهبي - هدية خطيبته أحلام - يلتمع في الوسط إلا أنه منفصل مع الأصبع تماماً عن هيكل جسده، على نحو ما ذكره في ثنايا السرد.
فالقصة تندرج بأسلوبها - كما أسلفنا - في حيز القص الحكائي الذي ينهل من المفارقة والطرفة وأطراف المشهد المثير لتكوين الحياة في أطراف المدن وأعماق القرى، لتتكون في هذا السياق منظومة العمل القصصي الذي يعده فرج مجاهد رغبة منه في استظهار مكنون الطرفة، حينما يجتذب لكل قصة من هذه القصص ما تحتاجه من فنيات وصور ومشاهد، إلا أنه يظل محافظاً على حيز الحكاية ونهر المقولة الذي لا ينضب..
ذلك في وارد استحضار حوارية الشخوص والأبطال في كل قصة.
***
إشارة:
أحلام عاجزة (قصص)، فرج مجاهد عبدالوهاب
الهيئة العامة لقصور الثقافة - مصر - 2011م (ط1) تقع المجموعة في نحو (100صفحة) من القطع المتوسط.