الثقافية - إبراهيم الزيدي
الموت تلك المعادلة الصعبة التي لا تكون الحياة بدونها، ولا تكون بدون حياة، فهو على الطرف الآخر منها يختتمها بالجدّ مهما كانت هزليّة، وببساطة مهما كانت معقدة، وبروّية مهما استعجلنا !! ويبقى السؤال: من الذي يموت؟
بهذه الصيغة بدأ لقائي بالشاعر العربي الكبير عبد الوهاب البياتي قبل وفاته، مازلت أذكر جوابه آنذاك، ذلك الجواب الذي كثَّفه لدرجة الاختصار.. إذ إنه نظر إليَّ ساهماً وقال: الجسد.
كان يعرف أن حياته مرهونة بالشعر، وأن الشعر مرهون بالكلمة، وأن الكلمة باقية ما بقي الناس. رغبتان تنازعتا فيّ آنذاك: رغبة الصمت ورغبة الكلام. رغبة في الصمت أمام فيض شاعريته المتدفق، ورغبة في الكلام سؤالاً، بحثاً عن المخبوء بين صفحات السنين في تلك التجربة الشعرية الفذة.
سمعتك أكثر من مرة تتحدث عن القلق في حياة الشاعر، وفي كل مرة يخطر لي أن أسألك عن دور القلق في حياتك أنت؟
-القلق في حياتي يشبه حال الناس عندما يعم القحط أرأيت كيف يخرجون ليتضرعوا إلى الله.. كذلك أخرج أنا لأضرب في الأرض على غير هدى.. مدفوعاً به إلى أفق القصيدة الموصد حتى يفتح.
لا شك أن موجة التحديث لطمت صخرة الشعر العربي فيما لطمت وعادت بكثير من التسميات والتصنيفات، كيف تنظر إلى تلك التسميات؟
- ((أنا لا أنظر إلى شكل القصيدة.. أنظر إلى الإبداع الكامن فيها.. أما التسميات فأتركها إلى نقاد النفايات)). فهذه قضايا تقود إلى ما لا يهم، فالقصيدة العظيمة - كما أعتقد - هي عظيمة لا لأنها مكتوبة بشكل معين، فالعظمة قضية كلّية.. الشكل جزء من كلّيتها.. دائماً كنت أقول: إننا في العالم العربي ابتلينا بحوار أهل بيزنطة فدائماً ترانا نتكلم عن الأشكال الخارجية دون النظر إلى جوهر الإبداع، إذ يتحدث بعضهم قائلاً: إن جيل الستينيات والسبعينيات أبدعوا، باعتبار السنوات امتيازاً ولكن هذا البعض لا يتحدث عن جوهر إبداع هذين الجيلين. كما أن البعض يتحدث عن اللغة الجديدة، فما هي هذه اللغة الجديدة؟ اللغة الجديدة عند الشاعر الحقيقي ترتبط بالقصيدة، بمعنى أنه كلما بدأ قصيدة جديدة، كلما أبدع لغة جديدة.. وهذا يعني أنه ليست هناك لغة جديدة خارج الإبداع. ثمة قسم من الشعراء يكتب الشعر فقط ولا يعاني، لأنه لا يملك إلاّ موهبة العندليب الذي يغني فقط من دون فرح أو حزن، لأن مهنته هي الغناء، ومثل هؤلاء الشعراء مهنتهم هي الكتابة فقط، من غير الارتباط بهمٍّ إنساني، وهنا أقول: إن رفع بوابات السد أمام ماء الشعر لا يعني هذه الكثرة الكاثرة من الشعراء التي تملأ الصحف والمجلات، وذلك لأن الشعر الحقيقي نعمة نادرة، وكما أن الشعر نعمة نادرة فإن الشعراء المبدعين هم نعمة نادرة أيضاً، وكما أن تلك السنوات من عقد الخمسينيات أفرزت قلة قليلة نادرة من الشعراء الحقيقيين، فإنني أرى الآن في التسعينيات أن الشعراء الحقيقيين لا يزالون هم القلة القليلة النادرة، بالرغم من الصخب الإعلامي اليومي، وكثرة المنابر والمجلات والمهرجانات.
بين ديوانك الأول (ملائكة وشياطين) الذي صدر عام 1950 وبين (أباريق مهشمة) الذي صدر عام 1954 بين الديوانين نلاحظ انقطاعاً ليس في المسيرة الشعرية إنما في التجربة الشعرية ذاتها، فالثاني ليس مكملاً للأول كما يفترض؟
- هذا صحيح فأنا في مجموعتي الأولى (ملائكة وشياطين) كنت وما أزال أسبح في بحر الآخرين، رغم الاستقبال الذي لقيته المجموعة في بعض الأوساط الأدبية، إلا أنني اعتبرته تجربة لا بدّ منها وعليّ تجاوزها فكان (أباريق مهشمة) الذي اعتبره بدايتي الحقيقية، وهكذا اعتبره النقّاد آنذاك، أذكر منهم على سبيل المثال الدكتور إحسان عباس الذي نظر إلى أباريق مهشمة على أنه بداية الحداثة والتجديد في الشعر العربي المعاصر.
أليس في رأي الدكتور إحسان عباس اجحافاً بحق السياب ونازك الملائكة.. وغيرهما من رواد الحداثة؟
- لا.. لا.. السياب في ذلك الوقت كانت شهرته مبنية على أشعاره السياسية والاجتماعية، وليس على تحديث الشعر وتجديده، أمّا نازك الملائكة فقد كانت غرقى في ذاتيتها.
للأسطورة مكانة خاصة في قصائدك -طبعاً- وقصائد غيرك من الشعراء العرب السياب وصلاح عبد الصبور وغيرهما وهي موجودة كذلك في شعر ت.س.إليوت وإزرا باوند وغيرهم كذلك، كيف تنظر إلى هذه القدرة الشعرية على خلق النموذج البدئي للوجود.. وهل هي تمثل مرورنا بكافة دورات الحضارة؟
- أعتقد أن سؤالك قد تداخل مع أسئلة أخرى لأنني أرى أن ارتباط شعراء الغرب بالأسطورة كان بدافع الحاجة الروحية، عكس الشعراء العرب الذين اهتدوا لهذه الأشياء عن طريق الاتصال الروحي المباشر بالطبيعة، وليست كل الثقافات قادرة على الدخول في هذه الوحدة بين الفرع والأصل، فلكل ثقافة وجهان: وجه آني يمثل البرهة التاريخية والمكانية، يستهلك بزوالها وفنائها، ووجه آخر قادر على الديموية، وهذا الوجه الآخر القادر على الديموية يحاول الاتحاد بأصله، أي بنواة الكون، بكينونة الإبداع والثقافة، وهكذا فإن هذا الوجه الثري يتجمع في سماوات الأزمنة المختلفة، والأمكنة المختلفة، كما تتجمع السحب وتتحد لكي تصنع المطر.
يقال: إن العالم انتقل من مرحلة الاقتسام إلى مرحلة الاحتكار كيف تنظر إلى الثقافة العربية في هذه المرحلة؟
- حين لا يكون للأمة مشروع حضاري ينتمي إليه المبدع، يصبح التحول سمة، والبحث عن الأماكن الشاغرة ديدناً، وهذا ما جعل المثقف العربي معطوباً أمام الإبداع الحضاري، وخاصة الشعراء لأن الشاعر متى فقد بعده الحضاري صار (كوزمبوليتانا) والمدهش أن القوى السياسية كانت وماتزال غافلة عن واقعة أن تدمير الثقافة هو تدمير لما بقي في العالم العربي، وهذا ما نلاحظه الآن من طروحات ثقافية إقليمية وطائفية، إعادة برمجة الحياة على أساس ثقافي إقليمي.
بعض أصدقائك من الشعراء كانت شهرتهم الأدبية على حساب الإيديولوجيا بابلونيرودا وناظم حكمت وغيرهم، فهل جاءت هذه الشهرة إيمانً بشاعريتهم أم نتيجة لتنازلهم عن إشكالية العلاقة بين المثقف والسياسي؟
- سأحكي لك قصة في بداية الستينيات قدّم مسرح (الكرملين) باليه (فرهادوشيرين) المستوحاة من إحدى روايات ناظم حكمت، دخلت المسرح وجلسنا في الصف الأول وناظم يقول بمرح: لو كان الأمر بيدي لجئت إليك بالقهوة التي تحبها، ولدخنت أنا سيجارة (كلواز)، بعد هنيهات دخل قادة الحزب الشيوعي السوفييتي من باب سري ولم نرهم إلاّ وهم في المقصورة الخاصة بهم، وكان في مقدمتهم (خرشوف) و(ميكويان) وبقية (الترويكا)، وفي نهاية العرض كادت قاعة مسرح (الكرملين) تنفجر من شدة التصفيق والهتاف وظل (خرشوف) ورفاقه يصفقون وهم وقوف، فصعد المؤلف الموسيقي الذي وضع موسيقى العرض إلى مقصورة الأقطاب لكي يتلقى بركاتهم كذلك فعلت الراقصة الأولى، أما ناظم حكمت فقد ظل في مكانه بجواري، وكان جمهور القاعة يطالبه بالتصفيق (وهي طريقة روسية معروفة) أن يصعد هو أيضاً إلى المقصورة لكي يتلقى بركات (خرشوف) ولما طال انتظار وتصفيق الجمهور اضطر (خرشوف) محرجاً إلى النزول من مقصورته لتحية الشاعر.
صداقتك بالراحل صلاح عبد الصبور تذكرني بقصيدتك (عذاب الحلاج) حيث إنه هو كذلك كتب في نفس الفترة (مأساة الحلاج)، من منكما استفاد من تجربة الآخر في هذا العمل؟
- أنت تقرأ كشاعر، ولكنك تسأل كصحفي.. أولاً أنا كتبت (عذاب الحلاج) ونشرتها ومن ثم بدأ صلاح كتابة (مأساة الحلاج) وقد تبادلنا في هذه الأثناء المصادر القديمة والحديثة التي تتعلق بالحلاج، ولا ضير من ذلك فالحلاج ليس قطعة حلوى تقاسمناها إنه تراثنا.. ومصدر من مصادر إلهامنا الخصبة، وحين استلهمناه أنا والمرحوم صلاح عبد الصبور في كتاباتنا، استلهمه كل منّا انطلاقاً من رؤيته الخاصة، فالإبداع عمل فردي لا يقبل المشاركة.. لربما نكون في حواراتنا عنه أي (عن الحلاج) أفدنا بعضنا.. فالنظر إلى موضوع ما من زاويتين مختلفتين يزيد الناظر غنى.
كانت وما زالت القضية الفلسطينية تشكل الحافز الشعري الأقوى لدى الكثير من الشعراء.. كيف تنظر إلى القضية الفلسطينية بعد كل تلك التحولات؟
- إن القضية الفلسطينية رمز للذل الكوني الاجتماعي السياسي العسكري، ومع أن حركة تحرير فلسطين لا تزال مشروعاً فقد قفزت لتصبح سلطة دون أن تمر بمرحلة الثورة، فهي سلطة بلا زمان ولا مكان، وهي بذلك تمثل الوعي العربي في أقصى حالات تسيبه، أي أنه مفرغ من مضمونه التاريخي من مكوناته الحضارية ومن أبعاده الثقافية والقومية، وهذه من أسباب سقوط مشروع النهضة العربية بكامله.
لقد تنقلت بين عواصم عربية وأجنبية كثيرة، وفي كل العواصم التي ارتدتها كنت مكرَّماً، هل كان تكريمكم في تلك العواصم احتواء لكم؟
- الشاعر الحقيقي لا يحتوى، وإن حاولت الأنظمة احتواءه يجب أن يرفض، فسياسة احتواء المثقفين ووضعهم في حظائر لعلفهم يشكل علامة خطر، إذ إنها ستؤدي يوماً بعد يوم إلى ضمور وموت الحافز الروحي عند المثقف والكاتب والشاعر.. إن الشاعر الحق لا ينشد كتابة الشعر وحسب، بل يبحث أيضاً عن وسائل الخلاص للإنسان.. والاحتواء هو نوع ما ارتباط بمرحلة زمنية، والارتباط بمرحلة زمنية مثله مثل الرهان، وأنا لا أحب الرهان، وكل الذين ارتبطوا بالمراحل سقطوا مع سقوطها.
يراودني السؤال عن المرأة في حياتك ولست أدري من أين أبدأ.. وكيف..؟
كل الذين يحاورون الشعراء يسألونهم عن البدايات وقد خالفتُ هذه القاعدة اليوم، فهل يحق لي أن أعود إليها وأسألك عن المرأة الأولى في حياتك؟
- بيني وبين المرأة الأولى في حياتي من البعد ما يؤهلني للجهل، فأنا لا أعرف عنها أي شيء إلا أنني رغم هذا البعد مازالت ذاكرتي تحتفظ بحرارة يدها وبريق عينيها الذي أراه كلما مسني الشعر.. لقد اختفت ولكنها حضرت في نساء أخريات لقد توالد منها أو تولدت آلاف العصور والوجوه، فهي الأم والمحبوبة الأزلية وكما تحولت عشتار إلى نجم، فهي قد تحولت -أيضاً- بفضل معجزة الحب، ولعل تلك المرأة التي اختفت هي التي أنجبت عائشة لكي تكون صورة للحب الأزلي.