لا أكتمكم سراً إذا ما بحت.. وقلت عن نفسي.. إنني من هواة الثرثرة وعشاقها.. وبالذات حين تصرح بها الروح.. ويصدع بها الجنان.. وشاعر البحرين قدَّم لنا ثرثرة روح هي دون شك بوح ينطلق من عقال عقله في حركة حياتية هي ضرورة لمن يتنفس.. ويتلمس وقع ومواقع خطواته وصولاً إلى واقع تأملاته..
دعونا سوياً نقرأ أول ثرثراته تحت عنوان «ساعة الحصار»:
عندما تدق ساعة الحصار
تتراكض عقاربها الثكلى خيولاً جامحة
تنشر ذراها سحاباً قدسياً
أي مطر سينهمر؟.. بل أي خطر سيحل؟! الثواني تمطر ألماً! والدقائق تنزف بحرها..! والأوراق تحترق! والوقت يتلاشى ويتوارى داخل أفق هلامي.. حتى حمام الأيك تصاب أجنحته بالإخفاق فما يملك أن يطير! أشياء كثيرة تحولت إلى سواد.. وإلى رماد.
يأتي غروب الأمس من جوف الغد
فتتسابق الخطى إيابًا نحو أفقي
عندما تتراءى لي ذكريات الأمس النائية بلا موعد للخيال.
\شاعرنا رغم الأفق الرمادي لم ييأس.. ما زال في أفقه من أمل:
بصوت الريح أنشد موالاً من عمق المحال.
تصدح به قلوب حانية لينزاح عنها هم أضناها
حينها تتلاقى أطياف الحب
وبتلاقي أطيافه يحل الأمل محل الألم.. وتعود الدنيا ربيعاً بعد خريف... وفألاً بعد بؤس ويأس.
ساعة حصاره أسلمته إلى طوفانه الهادر:
كل اجتياحات الطوفان الهادرة
تجتاج كياني الموقوف إجبارياً عند ملتقى الفصول
ترتديني حللاً من عمر الخريف الطاعن
تجوب أفقي المائل على صفحة الوطن.
أين هو الوطفان؟! أشعر أنني بدأت أسمع بدايات هديره؟
وعندما تتساقط وريقات العمر
تنتشلني موجة بحر مركونة.. أسيرة خوفي
ربما لأنني موهوم بطموح يفوق قدراتي
فتتداعى رغم صمودي.
ولكنه يستدرك.. القنوط لم يتملك إرادته رغم مخاوفه من تباين القوى بين طموحه ووهمه.. كانت بالنسبة إليه لحظة يأس عابرة استعاد معها كل أمانيه الجميلة:
بعزم الصمود والإرادة غرسنا نبتة الأمل الخضراء
وسقيناها بنبض الفؤاد الخصيب
رعيناها غرساً غطى هامة الحزن..
الإرادة يا شاعرنا تقهر المستحيل.. وتعيد للحب رؤيته. ورؤاه.. الإرادة صحوة من غيبوبة وهم ووهن..
بينما كنت في غيبوبة الحسرة أفقت من اغتيالي
وتنفست من مخرج الروح المشرع ريحاً
ملؤها عقد من تمائم أمل تائه..
وكما عودنا شاعرنا أن لا يقبل الهزيمة نهض كفارس.. وانتفض كشجاع يطعن جوف الظلام بحماسه.. حسناً فعل.!
وهذه رسالة نجوى.. إلى أين تنتهي.. لا أدري؟
سيدتي.. كم تمنيت لو أستطيع كبح ريح السموم القادم من جبهة الشمس
فأبقى على رسل الزمن العابر إلى غدي
عندها امتطى جراحاتي المسائية
بيد أني لم أتعرف على هوية الوجوم.. ولكن..!
ماذا بعد لكن..! وسائط ووسائل كثيرة لا يملك استخدامها لأنه يجهل أدواتها.. لا يقدر أن يكون منجماً فهو يجهل التنجيم.!
ولا عارفاً بأسرار ما سيأتي لأنه لا يملك القدرة على كشف المجهول!.. إنه..
أنا إنسان قدره الحياة في عالم مجنون
ممتطياً سفر الليل الممجوج بالمجون.!
يا له من بزخ مرفوض في داخلي..!!
كيف له الخروج من واقع لا يرتضيه لنفسه؟.. إنه يرغب.. ورغم الرغبة فهو قادر على الفرح لأن طيور أمله مكبلة.. وأحلام يقظته تتداعى سراباً.! هذه المرة لم يخرج من شكواه بسلوى.. ولا من يوم عيده بقطعة حلوى.. بات مغبوناً..
على هذه الوتيرة يأخذنا شاعرنا المتجلي ميرزا الصالح عبر رحلة يتقاطع فيها الفرح بالترح.. وأحياناً بصياح دون صداح.
أنا.. وأنت نجمتان تبحثان عن متسع
في فضاء اكتظ بالحجر..
وسبحنا على مضض نجتر أحزان غربتنا في هدوء
نخاف أن نذوب في الفضاء.. نكتئب!
خشية عليه وعليها من كذبة تاريخ قد تتحول إلى حقيقة أشبه بوريقات كتاب قديم تستعصي قراءته.. أقول لشاعرنا حيثما أنتما كونا بعيدا عن الحجر.. والهجر.. وأحزان الغربة.. الضياع في الفضاء الوسيع لا عودة منه.
الغربة أن لا ترى وجودك في وطنك.. أن تُهجَر.. أو تُهجَّر.. أو تهاجر.. وأنت تمتلك ذلك الانتماء.. شاعرنا أطلق آهة اغتراب:
لي وطن.. لكن لا أعلم أين هو؟!
هي الحسرة تنبع من داخلي.
فبدا لي شبحاً اغتال سكون الصمت
إنه يتذكر.. فكره الموجع يحاول الحضور.. تبدو ملامح الوطن تتراءى!
كان لي أرض.. الأرض هي الأرض.
والسماء هي السماء. ولكن القلوب قد نأت
والشوق لم يعد شوقاً. تاه في زحمة المغريات.
كل الآفاق الجديدة لفتني بملاءتها
سلبتني مشاعر الولاء. العار كل العار إن لم أكن أنا..
يا عزيزي.. الولاء للوطن أكبر. وأقدس.. وأعظم من أن تحجبه ملاءة.. ولا حتى سحابة مغريات.. الوطن وجود.. لا كرامة لمواطن دون وطن.
نصل مع شاعر البحرين من خلال ثرثرة روحه الجريء إلى عدة أسئلة حائرة:
لو سألتني عن مساحات الغيم الرمادية.
ومدارات الروح العلوية داخل حزني الملقى على عتبة روحي
وانتشار الليل في أفقي المترامي ينشر العتمة في جوفي المتعب
وأسئلة أخرى طرحها.. قيدته بقيود الوهم الموسومة بالغموض الذي نأت بحمله الذاكرة.. أسئلة تحولت إلى غمامة سرابية لا يملك جواباً لها لأنها مستعصية على الحل بالنسبة إليه.. وبالنسبة لي أيضاً.. من الحكمة أن لا يتجاوز تفكيرنا حدود تقديرنا..
شاعرنا الصالح قرأ ما يكتب.. استوعبه.. وأعطى لنا جميعاً خواطره وهو الكاتب:
بيدي قلم مداده ضوء قادم من جهة الشمس
وصرير يتنامى إلى سمعي نشوان
احتاج إلى رقاع أكتب عليها حلمي.
أنزف خلالها حسراتي.. أدونها همساً ثرثاراً..
تفضل هات ما عندك.. كلنا عيون مفتوحة..
تساؤلات.. وعلامات استفهام، وآهات تنتقل عبر بوابة حزنه العائم كمراكب ورد ضبابية تشق أمواج الروابي الخضر..
حتى هذه اللحظة لم تستبن ملامح خواطر كاتبنا:
تنداح علامات استفهام (؟؟؟)
تسبقها آهات حرى لتشرب البريق القادم
عبر ملامح صباح مشرق
لتنتقل عبر بوابة حزني العائم كمراكب الورد الضبابية
فتشق أمواج الروابي الخضر
عندما يتغير وجه الماء يلوح خلاله طيف الماضي
يتنفس عبق الشيح المطل من نافذة الأمل الصباحية
يسمو عبر أفق القلب نبضاً يخفق فوق القلب
لحظة خوف وداعية.
هل عاد الأمل إليه رغم النزف ورغم هجير البيد الناري وهو يرقب القمر واقفاً في انتظار غيمة مطر كي يرتدي حلمه حلة من ضوء؟! ربما!
لرفيقه هدية لا ككل الهدايا.. إنها كل ما يملك:
إليك يا رفيقي ألُمُّ ممتلكاتي.. أرتبها لأقدمها لأعز إنسان
فأبث إليه إبداعاتي البكر.. أستعرضها..
أصفُّها على أروقة الزمن المدكوكة فوق جبهة الوقت الحاسر
أتحين لحظة التقاء بك على مضض
أستوقف تيار الزمن الجارف..
ومن يقدر يا شاعرنا على إيقاف الزمن لو حاول؟! إنه الأقوى من سلطان وسلطة الشعراء مهما كانت سياطهم لاهبة؟!
ليلة صحت على سمع أبواق الوجد
لتدق أجراس الصمت المعتوهة
يزف صداها المتهدج في جنح الماضي
لتطل على شرفات الحب الموؤود
عندها أقف متكأ.!
لأجد مداد الحب تلاشى في غيب أسموه التاريخ
هدية ذبلت وردتها لأن مدادها جف.. لا ذنب للتاريخ في ذبولها.. نحن الذين نذكي غبار العاصفة في ملامح من الحياة لم تتحدد بعد..
«أنت الوطن» محطة ثرثرته الروحية ما قبل الأخيرة:
أنت الوطن ومرجع الروح للخفقان
على ناصيتك تنكفئ الريح
ومدادات الضوء القادمة من عبق الزهور
تزدان ألقاً كضوء سراج..
هل يكتب لضوئه.. وسراجه النور؟! يبدو أن نهاية منتظرة تفتقر حتى إلى شمعه.!
عند مدارات السفر الراحلة نحو رابية الحب
تنبلج العتمة فوق جبهة القمر المنير
تراودني أفكار من قصيد لم تقرأ أبياته
عندها تنتصب الأزمنة فوق أعتاب تاريخ مرير
ضاقت نجيمات المساء تتأبطني لحيظات زفت مدامعها
نحو أفقي المُتعب تستجدي زمناً خانته عقارب الساعة
أخيراً.. مع ألم جمره.. الذي يقول عنه:
هكذا كنت ألماً من جمر جئت في موكب بريق آت
من بضع نجيمات حالمة.. فأخذنا نتتبع الضوء القادم
أنا. وأنت من عمق السديم كفراش ضل طريقه
تيه الحب أقسى على النفس من حياة بلا حب.. درب الحب يا شاعرنا ميرزا الصالح له بوصلة لا تكذب أهلها تحدد له الاتجاه دون ضياع..
وحسناً اصطفيت لحبك عشقاً أبدياً اختزنته.. واختزلت مساحة دربه دون غبار.. ودون جدران وهمية. تواكبك بضع حمامات ترفرف وتسبح للباري خالقها.. وتلوح لك بأجنحتها وهي ترسم لك سكة السلامة نهاية لا شك سعيدة.
***
ميرزا الصالح
36 صفحة من القطع الصغير
الرياض ص. ب 231185 - الرمز 11321 فاكس 2053338