لم يكن يخطر في البال عندما بدأت فكرتها قبل أربعة أعوام، أنها ستنتهي في مرحلتها الأولى إلى ألفي وثيقة، في ستة مجلدات، من ثلاثة آلاف صفحة، من بيئة صغيرة الجغرافيا قليلة السكان، وأنها ستلقى من الأُسر والأفراد والجيران كل هذه الحماسة والإقبال، وأنّ أصحابها سيُفرِجون عنها بمثل هذه الأريحية والإفصاح.
والغاط أو «لُغاط» لمن أراد أن يعرف المزيد عنها، محطة قوافل، في سهل زراعي عريض خصب، تحميه الجبال «طويق» في شاطئه الشرقي والرمال «الثويرات» في شطه الغربي، يمر بمحاذاته وادٍ «سدير» لا تكاد تصدّق خرير شلالاته إذا غمرته الأمطار، وهو الوادي الذي منح الإقليم اسمه، يتنافس مع اسم مماثل له قد يكون الأقدم في جنوب هضبة نجد المحاذي للربع الخالي.
البلدة قديمة، تؤكد الوثيقة الأولى من هذه الوثائق أنها كانت معمورة قبل أكثر من ثلاثمائة عام، لكنها - أي البلدة - لم تكن يوماً، وكل ما جاورها على امتداد السهل والوادي، كثيفة السكان، رغم خصوبة الأرض وأهمية الموقع، والحصانة الجغرافية.
يقرنها المجتمع السعودي المعاصر، بأغلبية ساكنيها من أسرة السديري (من فخذ البدارين في قبيلة الدواسر) التي استقرت فيها منذ أكثر من ثلاثة قرون نازحة من منبعها في وادي الدواسر، لتستقر في هذا الإقليم (جلاجل ثم الغاط)، لكن التاريخ ينتظر جهداً توثيقياً، لتوكيد هذه المعلومات وتوضيحها.
ويقرنها السعوديون المعاصرون، بشأن تاريخي آخر يتصل بالعلاقة السياسية الوثيقة بين الأسرة الحاكمة وبينها منذ الدولة السعودية الأولى قبل ثلاثة قرون، ثم بالمصاهرة التي بدأت بين الأسرتين منذ الدولة السعودية الثانية.
واليوم لم تعُد الغاط صفحة في التاريخ السياسي والاقتصادي فحسب، لكنها صارت رقماً في الثقافة، ودولابَ حركة لا تتوقف من الجوائز العلمية، والندوات، وتكريم الرواد، وابتعاث المتفوّقين، والإصدارات المتواصلة، وورش إحياء التراث العمراني.
والليلة تحقق الغاط فتحاً جديداً في حفظ التراث والمخطوطات، لم تكن المنطقة عرفته في تاريخها المعزول عبر القرون، فبدأت تعيشه مع بقية المناطق، واقعاً مع إطلالة الذكرى المئوية لتأسيس المملكة، وكانت هذه الصحوة التوثيقية قد بلغت ذروتها بالأمس باسترداد دارة الملك عبدالعزيز وثائق مهمة تتعلق بتاريخنا الوطني في عهود الدولة السعودية الثلاثة المتوالية.
لم تكن ثقافة الوثائق غريبة في التراث العربي، لكنها كانت غائبة في مجتمعنا، الذي لم يكن في معظمه يكترث بالمخطوط، وربما صنّف القديم إلا ما ندر، تخلفاً ومظهراً مناقضاً للتقدم والعصرية.
اليوم، وبصدور وثائق الغاط، بهذا الرصد الدقيق والعرض العلمي، والمقارنات البحثية الأصيلة، في أول عملية توثيقية منهجية من نوعها في المنطقة الوسطى، وكونها تدشّن في موطنها، وبحضور شهود من أبناء الأجيال المتعاقبة التي دوّنتها وصاغتها ووثقت مضامينها، فهو برهان على أن الصحوة التوثيقية لإحياء التراث المخطوط بدأت تؤتي ثمارها، وتنتقل من المدينتين المقدستين ومن العاصمة الرياض، إلى بقية المناطق والمحافظات، وأن الأوان قد حان كي تخرج الوثيقة من بطون الصناديق وأقبية المنازل وخزائن المستودعات إلى أرشيف المكتبات والحفظ الإلكتروني وترميم المخطوطات وتحليل المعلومات، وأن تتحول من مادة تعبث بها البكتريا إلى مادة معلوماتية معالَجَة تدعم عمق التاريخ والبعد الحضاري للبلاد.
لقد نجح المؤرّخون الجدد اليوم من موثّقي المخطوطات في أن يضعونا أمام نوع جديد من التاريخ، يعادل في أهميته ما سطّره لنا ابن بشر وابن غنام والفاخري وابن عيسى وابن بليهد والبسام، وليحققوا في تعاملهم مع المخطوطات، منزلة لا تقل عما حققه الأوائل، فلقد أتوا لنا بما يدعم التاريخ الذي كتبه سابقوهم بالوثائق والمستندات، أليست العملة تاريخاً؟ والمكيال واللبس والبئر (القليب) والراحلة والزرع (الغرس) والمحبرة واللوح والكتّاب والمكاتبة الشرعية والفتوى والأنساب والأوقاف، كلها مادة تاريخية ناطقة، وأوعيةً لرواية الحالة الاقتصادية والاجتماعية التي سجلت فيها؟
إن أكثر ما شخّصه مؤرّخونا الشعبيون القدماء هو - كما هو معروف - التركيز على وصف الحالة السياسية للبلاد، فإذا بهذه الوثائق، وإن جاءت في شكل مادة «خام» تنتظر التحليل والدراسة، تبحر في البعد المادي والتراثي والحضاري على حد سواء.
إن وثائق الغاط التي تصدر اليوم عن مركز الرحمانية الثقافي تحت مظلة مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية في الجوف والغاط، هي دراسة إنثروبولوجية لا تنحصر في بلدة الغاط ولا تخدم أسرة معينة فيها، بقدر ما ترصد العلائق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والبشرية لمنظومة البلدات والأرياف المجاورة لها، وقد تُغيّر بعض معلوماتها من المسلمّات والقناعات السابقة التي دأبنا على ترديدها.
وهي عمل أكاديمي متقن الصنعة والعبارة واللغة والفهرسة والطباعة تقدمه الغاط لشقيقاتها من المحافظات نموذجاً راقياً لما ينبغي أن يكون عليه الجمع والرصد والتبويب والإخراج، وتوظيف التقنية.
لم يكن العمل الذي أنجز اليوم سندساً أخضر لمن سار في طريق إنجازه، فلقد كانت قراءةُ الوثيقة وفكُ رموزها ومقارنتُها وتحقيقُها وترميمُ المتساقط منها أموراً بالغة التعقيد، شرحها الأستاذ فايز الحربي في مقدمته الضافية، مستفيداً من تجربته السابقة في تحقيق وثائق المدينة المنورة وتصنيف مخطوطات المحكمة الشرعية فيها، فرسم لنا مدرسة فريدة في هذا الميدان، ستفيد منه مراكز البحوث، وتجعل منه مضمار تنافس بين الباحثين، تشجعهم على الغوص فيها وتفكيك محارها واستثمار لآلئها علمياً، لا مجرد جمعها وتصنيفها، كما حصل مع وثائق الغاط في مرحلتها الأولى التي أمامنا.
إنها تحية من الأعماق لكل فكر امتد لتحقيق هذا الإنجاز التراثي البديع، وشهادة صادقة لسمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز خازن تاريخ هذه البلاد والأمين على خزائنه، وتهنئة خالصة لمؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية، ولمؤرّخنا المبدع فايز الحربي، على هذا السفر التوثيقي النفيس.
* باحث وإعلامي سعودي - الرياض