يقول هارولد بلوم، في الفصل الأول (الأصول الشعرية والأطوار النهائية) من كتابه (خريطة للقراءة الضالة) - ترجمة د. عابد إسماعيل:
(إحدى وظائف النقد، كما أفهمه، هي أن تجعل العمل الجيد لشاعر ما يبدو أكثر صعوبة في الممارسة، بما أنه فقط عبر التغلب على الصعوبات الحقيقية يمكن أن تولد قصائد متناسبة بكليتها مع عصر متأخر كعصرنا. كل ما يمكن للنقد، كنقد، أن يمنحه للشعراء هو التشجيع المميت الذي لا يني يذكّرهم بوطأة التأثّر).
هذا الرأي، برأيي، نصفه الأول معقد ويحتاج القارئ له إلى قراءة الكتاب كاملاً حتى يصل إلى المغزى الذي رمى إليه المؤلف، بينما الجزء الأخير من الرأي في غاية الانبساط والوضوح وكثيراً ما قيل بمثله في تقدير القيمة الحقيقية - إن وجدت - التي يمنحها النقد للشعراء، وهي على عكس القيمة الحقيقية - الراسخة والمتجددة - التي يمنحها النقاد (لا النقد) للشعر (لا الشعراء)..
فإن نظرنا إلى التاريخ الشعري منذ بدايات ما وصل إلينا منه وحتى أحدث الأساليب الشعرية المتجاوزة، سنجد أن النقاد قد منحوا هذه الأعمال - بمجملها لا التفصيل - تاريخاً موازياً من العمل القرائيّ والبحثيّ (النقديّ) المتراكم والمتنامي جيلاً بعد جيل..
وفي المقابل، فليس ثمة اعتراف بأن النقد - في مضمونه - قد منح شاعراً معيناً ميزة يمتاز بها على شعراء آخرين، مشاركين له في العصر والجيل والموطن والقضية..
ننظر - عربياً - إلى الشعراء (الصعاليك) فنجد جبالاً من الدراسات النقدية حول قصائدهم، ولكننا لا نستطيع أن نلمس إجماعاً على فرادة محققة لواحد منهم (الشنفري مثلاً) دون غيره إلاّ إذا اعتمدنا على أقوال نقاد معينين، دون الأخذ بالقول النقدي في عمومه، الذي يراهم كمدرسة واحدة يكمل بعضها بعضاً.. ففي حين باتت (لامية العرب) مضرب الأمثال عند النقاد كأعلى قيمة للشعراء الصعاليك، نجد أن (الشنفري) لا يُذكر - نقدياً - إلاّ ويذكر معه عروة بن الورد وتأبط شرًّا والسليك بن السلكة، وكأنما النقد يضنّ على فردٍ بالانفراد في قمّة حققها بقصيدته..!
كذلك يختلف الحال مع (أحمد شوقي) المتوّج (أميراً للشعراء) في العصر الحديث، فقد جاء التتويج من زملائه الشعراء وبعض المحبين والمكبرين له من وجهاء مجتمعه، ولم يكن للنقد ولا النقاد الكلمة الفصل في ذلك حتى يومنا هذا..
وعلى ذلك، فمهما يكن من علو لكعوب النقاد في مجتمعاتهم فإنهم سيظلون عاجزين عن منح شاعر واحد قيمة تضاف إلى قيمته المحققة بفعل قصيدته في مجتمع الشعراء وعامة المثقفين، بل هم - أي النقاد - يمنحون الشعر كجنس ثقافيّ أدبيّ تلك القيمة الداعمة لمكانته وخلوده على مر الأزمان، في حين أن النقد الذي يقدمونه هو المانح للشعراء تلك المراتب المتباينة والتمايز المختلف بين شاعر وشاعر..
فإن أخذنا، كمثال، مئة ناقد يمدحون شاعراً معيناً ويعلون من شأنه، فقد يكون مديحهم وإعجابهم - بعين القراءة الواعية - تشويها وتنفيراً وتحجيماً لذلك الشاعر، ولكنّ كل ذلك يصبّ في خدمة الشعر كمنبع ينهل منه المشتغلون على الثقافة بالدرس والاجتهاد، أمّا إذا أخذنا مئة عمل نقديّ - ولتكن المائة السابقة نفسها - تكررت فيها أسماء شعراء معينين، دون الوقوف عليهم كثيراً - لأن الدراسات ليست عنهم أساساً - سنجد أن ذلك قد منح أولئك الشعراء قيمة فخرية تتجاوز حدود الشاعرية المختلف عليها لتصل إلى تدعيم القيمة الرمزية لهم كأركان لمشهد يمتد من أزل إلى أبد..
تلك هي المعادلة التي أراها حلقة مفقودة من كتاب هارولد بلوم (خريطة للقراءة الضالة) المعني بالشعر والشعراء والنقد والنقاد، في فلسفة دقيقة ومعمقة وفاتنة، غير أن المتأمل للأمثلة الغربية - أمريكية وإنكليزية - التي وضعها المؤلف في مختبره، وهي غزيرة ومتفوقة ومتجاوزة لأزمنتها (والت ويتمان وشيللي ووالاس سستيفنز وجون آشبري ورودزروث وكيتس وتينسون وجون ميلتون وغيرهم) سيجد أن (الاختبار) هو (اختيار) بالأساس، وعليه فالنتيجة مقننة ومقتنصة سلفا..!
يقول بلوم في الفصل السابع، عن ميلتون وأسلافه: (ما من شاعر تمكن مقارنته بميلتون في شدة تركيز وعيه الذاتي كفنان وفي مقدرته على تجاوز كل النتائج السلبية..) إذاً بهذه الطريقة التقريرية يكتب النقاد، الغربيون والعرب - الحداثويون - على السواء، وأظنّ أن مثل هذه الآراء النقدية عندما تأتي بصيغة الحسم أو الحكم لصالح شاعر على حساب غيره من الشعراء، في جزئيات قد تكون بعيدة عن كنه الشعر الحقيقيّ نفسه، وإن كانت حول انتماء لمدرسة نهضت بعصرها، فإنها لا تمنح الشعراء، فرادى، أيّ قيمة إيجابية - بل قيمة بالسالب فيما أرى! - ولكنها حتماً تمنح الشعر قيمة إيجابية في وصفه الفنيّ المتضمن شدة التركيز والوعي والمقدرة على تجاوز كل النتائج السلبية!
فالشعر الحقيقيّ هو كذلك، ولكنّ الشاعر الحقيقيّ غير ذلك. فالتركيز لا يمنح تركيزاً مبدعاً، والتجاوز لا يقدم تجاوزاً مبدعاً، والوعي لا يضيف وعياً مبدعاً. بل أستطيع القول: إن شتات الأفكار لدى الشاعر يجعل من شعره إبداعاً مركزاً، ووقوفه على الأشياء يجعل من شعره إبداعاً متجاوزاً، وفقدانه للوعي - لحظاتٍ في متاهةٍ خاطفة - يجعل شعره الوعيَ في قمته الخالدة..
ختاماً، واختصاراً، أقولُ: على رغم شهادات قيّمة قيلت في هذا الكتاب (خريطة للقراءة الضالة) لم أجده مقنعاً لي، كشاعر، في جوانب كثيرة. وقد يكون مقنعاً جداً للناقد، كناقد. وتبقى القراءة الضالة من دون خريطة!
ffnff69@hotmail.com
الرياض