إنّ الاختلاف والخلاف مع الراحلين الجابري وأبو زيد كان على الأغلب اختلافاً معهما، لكنه أبداً لم يكن خلافاً حولهما... أي لم يكن حول أهمية قيمة ما قدماه للفكر العربي على المستوى الحداثة المنهجية، أو حول مردودية الغلال المعرفية للمنتج الفكري والثقافي للاثنين، مما سيثار حول الدور الفكري والمعرفي للراحل الدكتور محمد أركون والتشكيك بجدارة أدائه وقيمته المضافة...

لكن الأمر اللافت هو أنّ الراحل د. أركون خلف بعد رحيله خلافاً حوله، وليس حول إنتاجه الفكري وأدائه المعرفي والتحليلي فقط، أي الاختلاف حول أدائه والمردودية الفعلية لإنتاجية مشروعه الفكري والنظري... بل والتساؤل المفرط في مغلاته الإنكارية، وهو إن كان له مشروع بالأصل!

أم أن نتاجه مجرّد أمشاج ومقتطفات فكرية جزئية، جمعها الراحل من خلال تجربته ومعايشته الطويلة للثقافة الفرنسية، حيث يصعب أن نجد متناً نظرياً يمكن البناء عليه، أو أطروحة تكوينية يمكن أن تؤسس لخطاب نظري مميز، أكثر من خطاب مرقش بمفردات حداثية مما يتداوله الخطاب الثقافي والأكاديمي الفرنسي منذ الستينات: عن البنيوية، والألسنية، ومن ثم الابستمولوجية والانثربولوجيا، حيث تتردّد هذه الأطروحات مقمشة تزيينياً الخطاب (الأركوني)، بوصفها زركشة خارجية على سطح خطاب مسطح، دون أن تكون مثمرة، أو منتجة لمنظومة بناء مفاهيمي ينتج تطابقاً مع موضوعها، وهو هنا الفكر الإسلامي تراثاً ومعاصرة... حيث يفترض بعض ناقديه أنه ثمة تفاوت بين أدواته المفاهيمية وموضوعات بحثه، حيث تبقى هذه الأدوات التحليلية دوالاً تبحث عن مدلولها، دون إنتاج مطابقة مثمرة للواقع المعاش أو الواقع النصي، لتخلق كشفاً جديداً أو رؤية مختلفة أو تأويلاً مغايراً بارعاً... حيث كأنه يلتقط الدوال (فكر الغرب)، ويمضي باحثاً عن مدلولاتها في سياقات مختلفة (الواقع والتراث الإسلامي)، حيث تعجز عن إنتاج وعي مطابق في الكشف عن الظاهرة المعطاة في واقعها الحقيقي (المعاش) أو واقعها العقلاني المفترض، أي فيما يمكن أن يكون عليه الواقع، وليس فيما ينبغي أن يكون عليه، بمعنى الارتقاء بالواقع المفترض إلى مستوى قوانين الممكن العقلي، وليس التجريد الذهني الذي يفضي إلى الغموض الملابس للخطاب الأركوني...

وعلى هذا فإنّ ما يسمّى ب»الإسلاميات التطبيقية»، لن تتبدى إلاّ عن إسلامية مطابقات المفاهيم والأدوات الغربية، لجسم التجربة الفكرية الإسلامية، أكثر منها أدوات تحليلية برهنت على نجاعتها في الكشف عن المستويات الدلالية المتعدّدة للنص موضوع التطبيق والتحليل والتأويل.... ولهذا تكثر الوعود بتحقيق ذلك في كل كتابات أركون، ومن ثم الدعوات إلى والحض على ضرورة أن نفعل ذلك بالمستقبل... طبعاً وفق الطريقة المدرسية والأكاديمية التي تتوجّه إلى متلقي تلميذ لا ينسى فيها المفكر أركون دوره كأستاذ يتوجّه إلى طلبة جامعيين أو باحثين مستقبليين، يقترح عليهم موضوعات للبحث الأكاديمي الجامعي... أي أنّ الخطاب الحداثي الأركوني ظل في حدود الملامسة لجسم التجربة، دون معاناتها وتملكها (هضمها) لإعادة تمثلها وإنتاجها، ومن ثم التمخض عن تحولاتها النوعية التي تستمد مغزاها الكيفي من عناصر المادة الكمية ذاتها التي شكلت عنصر تغذيتها النوعي الأول وفق منتقديه... ولهذا كانت الكتابة الأركونية تتبدى عن تجهم شديد في شدة درجة جدية شكل إنتاجها، لكنه تجهم لا يتواكب ويتوازى مع المحصلة والمردود الإنتاجي الفعلي لهذه الجدية المفرطة في تظاهرها المقطب تعالياً واستعلاء، حسب ما ذهب إليه بعض ناقديه....