بسبب الاكتشاف العظيم لفنون الطفل تداعت الفتوحات النظرية في علم النفس، وعلم الجمال، وصار ممكنا التفاعل مع قيم جديدة من الجمال والبهجة.. بتلقائية أدى هذا لإعادة قراءة الفنون البدائية وتشكيل رؤى جديدة من فهم جمالياتها من هذا ما تم تجاوزه من آراء نمطية قديمة كتلك المتعلقة ب»المنظور» الذي كان وفقا ل(رينان وشبنجلر) معروف للعقل الغربي فقط ومجهول بالنسبة للبدائيين والأطفال وأن الخبرة الرمزية فى العمق هي ما تنقص الطفل. فقدت قيمة كل الآراء المماثلة لهذا الرأي وانبرى كثر للدفاع عن التبسيط والتسطيح والشفافية كغرائز للرمزية.. بصفتها الصانعة لعلامات ذات دلالات عميقة نفسية ودينية واجتماعية.. الأمر الذي زاد من رسوخ خصوصية فنون الأطفال الذي أدى لجعلها رمزا إبداعيا إنسانيا أصيلا يقتفيه النقاد للإبحار في أعمال فنية عظيمة كأعمال بيكاسو.. بل ويكون الثيمة السائدة لفنانين كبار من أمثال بول كيلي وشاجال وميرو وكارل آبل. بالإجمال فإنه يمكننا القول إن التطورات الفائقة في الفن الحديث ساعدت على إدخال فن الطفل إلى النطاق العام للتذوق الجمالي. وكما ذهب جاردنر في اعترافه بالقيمة الجمالية في رسوم الأطفال ومعادلتها بالقيمة الجمالية الموازية في رسوم بعض طلائع الفنانين المشهورين في القرن العشرين بما يبين أن الجمال في رسوم الأطفال ليس عارضا.
هذا بالنسبة للرسوم وما أريده هنا تحديدا هو إخراج هذه الحالة الإبداعية العظيمة من حداثويتها ومقاربتها لتكون فضاء متجددا لتطبيقات الفن المعاصر. ففي مقاربة بين فنون الطفل والفن المعاصر يظهر لي أن الميل العظيم للتجريب والاكتشاف عند الطفل يوازيه ميل كبير للحالتين في الفن المعاصر ما يجعلهما ركيزتين للتأكيد على نوع أصيل من تماس الإبداع الإنساني الخلاق والملهم من منابع أصيله للتعبير الفني الخلاق.. هذا من زاوية حداثوية معاصرة بيد أن أكثر الحالات اقترابا.. بل التصاقا بالفن المعاصر فأراها في تلك المتعلقة بالفن الأدائي والتي هي من الدهشة الماتعة والمذهلة من حيث كونها الجزء المحتفظ بأعلى قدر من التعبير الفني والتي تقول صراحة إن الفن الأدائي تحديدا من بين أنواع الفن المعاصر جميعها هو الأكثر التصاقا بإبداع الإنسان الفطري وذلك لأن فن الأطفال هو «أول وأنقى مصدر للخلق الفني» كما يقول تشزك. لأشرح هذا علي أن أذكر أن من خصائص فنون أطفال ما قبل المدرسة في سن الرابعة تحديدا في مرحلة «الرموز المسماة» هو رسمه لأشكال مبهمة يطلق عليها أسماء وقد يبتكر لها قصصا فتكون قد بدأت معه أول التعبيرات الفنية عن «التفكير». في هذه المرحلة وعن تجربة ورصد شخصي في بحث لي عن فنون الأطفال وجدت أن الطفل في لحظة شغف بحالته يترك الورقة والألوان ويبدأ في التعبير عن أشكاله أدائيا غير مكتف إطلاقا بالترميز لها بالخطوط. على سبيل المثال.. طفل في الرابعة كنت اتخذت من رسومه عينة لبحثي رسم في إحدى المرات دائرة وخطين طويلين يمتدان لآخر الورقة حين سألته عن شكله قال إنها عارضة أزياء ثم قام من مكانه في لحظة انتشاء يقلد مشية العارضة دائرا حول الغرفة بشكل شغوف ومغموس كليا بلحظة فنية غاية في الإدهاش.. فعل وقال ذلك في الوقت الذي كانت تجربة دخول «الدش» إلى المنازل السعودية ما زالت في بدايتها الأمر الذي مثل لي حالة فنية عظيمة معبرة وأخاذة. الذي فعله الطفل ليس إلا تعبيرا فنيا لم يكتف إطلاقا بالرسم بل تلبس الحالة ذاتها ليكون بذاته وبكامله تعبيرا فنيا عنها.. هكذا يصبح الموضوع الفني هو الإنسان نفسه. برغم أن الحالة هنا مبسطة إلا أن التفضيلات التي يقدمها للفن الأدائي تجعل لهذا النوع من التعبير أولوية فطرية. يأتي في هذا السياق صفات أخرى لفنون الأطفال متعلقة ب « التفكير» الذي هو أحد التفضيلات الأساسية للفن المعاصر. يبدأ هذا في سن الرابعة حيث يكون التفكير خياليا «وأسميه تفكيرا حرا» حيث وعلى الأرجح يكون تفكيرا آنيا يرسم ثم يفكر بما فعله.. أو ينغمس في التفكير ثم يرسم رمزا قد يجده في وقت لاحق أقرب لحالة أخرى فيترك المسمى الأول مستعيضا عنه بحالة تواكب ميله للوثب الرشيق في أفكاره بين الحالات. محققا حالته الفنية المتجددة في إخضاع الرموز لأرواح المسميات. هذا يتعلق بالتفكير وباللغة وبرشاقة التعامل مع الرمز وحركة الخيال الإبداعية الطليقة عند الطفل. المرحلة الفكرية المهمة في هذا السياق أيضا هي مرحلة ما بعد السابعة إلى التاسعة حيث إدراكه للشكل ينبع من ذاتية فنية توازي تلك المتعلقة بالتفكير المعاصر في تطبيقات ليس أولها الميل الأساسي لهذا النوع من النشاط تحديدا لسبب طواعيته في التعبير عن مشاعره وعقائده وأفكاره كما تساءل جاردنر.. وليس آخرها حريته تجاه «ما يعرف».. لا خضوعه «لما يرى».. من هنا يظهر صدق فني في تقارب الحالتين نجد الطفل كالفن المعاصر.. يكرر، يبالغ ويحذف رغبة في التأكيد، يسطح، يظهر الأشياء بشفافية ليعلن محتواها لا أشكالها الخارجية، يجمع في حيز واحد متناقضات دون اهتمام بمدى تناقضها للآخرين فسياقه الفكري يجمعها بطريقته, يجمع بين أمكنه وأزمنة مختلفة في حيز واحد كما لو كان يعرض علينا شريطا مصورا للحوادث والمشاهدات في فراغ واحد. كل هذا يربطنا مباشرة وبشكل ملهم بتطبيقات الفن المعاصر الفكرية اليوم التي ومن خلال الطفل نزداد ميلا لتأكيد سياقها الفطري في التعبير.
الرياض