Culture Magazine Thursday  20/01/2011 G Issue 330
فضاءات
الخميس 16 ,صفر 1432   العدد  330
 
إدعاء الحرية... وكراهيتها!
د. صالح زياد

كل يدعي أنه مع الحرية ومن أجلها، فهي ليلى التي ادعى وصلها كل مدع ولكنها لا تقر لهم بذاك، على نحو ما أخبرنا الشاعر القديم. إن الحرية قيمة إيجابية، تبتدئ من حرية الذات التي يغدو امتلاكها درجة عليا من درجات التحقق والحضور الوجودي، ولكن ادعاءها يمضي إلى كل الإيديولوجيات الشمولية وأنواع التسلط والعسف. فالشيوعية والقومية والاستعمار والدكتاتوريات المتعددة لم تخيِّل للناس غير الحرية، ولم تحدِّثهم عما تنطوي عليه من استعباد وقهر، بل عمّا يقهرهم ويستعبدهم من الفقر والجهل أو الاقطاع أو العدوان الخارجي، أو من الفساد والتسلط. وكم من دكتاتور قام بدعوى القضاء على الدكتاتورية، أو قام بذريعة الثورة على التخلف، أو المواجهة لعدو ما للحرية!

وكم من ثورات اجتماعية متلهبة بمعاني الحفاظ على التقاليد والمعتقدات والعودة إلى الأصالة والحفاظ على الأخلاق، كانت في الوقت نفسه ترفع شعار الحرية وتتذرع بها بوصفها مدلولاً لحرية المجتمع المجرد وكينونته المعنوية.

ولهذا كانت الحرية إشكالية نظرية فلسفية، بالمعنى الدقيق للمفاهيم الإشكالية، وهي التي يترابط في حلها أكثر من وجه كل منها لا يمكن حله أو فهمه بمعزل عن غيره. فالفرد وهو جوهر موضوع الحرية بالمعنى الليبرالي، لا يعيش خارج المجتمع، وليس مكتفياً بذاته، فهو -إذن- دلالة قيد، بل قيود متعددة، أكثر منه دلالة حرية، وهي قيود تكوينية (بيولوجية وسيكولوجية) وطبيعية، ودينية، وثقافية، ومعرفية، واقتصادية، وسياسية، وقانونية... إلخ.

والمجتمع -أي مجتمع- لا يعيش خارج العالَم، أي خارج نسق مجتمعات مختلفة. وهكذا تغدو الحرية معضلة، بحيث تجاوز الفرد، إلى المجتمع، والمجتمع إلى الكل الإنساني وإلى الكون، في علائق عديدة ومعقدة.

وبالطبع فإن حركات التحرر الاجتماعي مهما تنوعت صورها، لا تستطيع أن تقوم بمباشرة تحرير الفرد من قيوده تلك دفعة واحدة، ولا بشكل مطلق، والتاريخ يعلمنا أكثر من أي شيء آخر الفارق بين الشعارات والوقائع، والنظرية والتطبيق.

لكن الذي يثير التأمل هو مقدار الفظاعة الناتجة عن التركيز على التحرير باتجاه واحد، فالفقر الذي يورث استغلال الإنسان للإنسان، كان محط التحرير في الشيوعية، وكانت النتيجة فقدان الحرية الفردية الذي جعل الحياة لا تختلف عن السجن. وتحرير الفرد بالمفهوم الاقتصادي الرأسمالي المطلق الذي يحيِّد دور الدولة بل يحيلها إلى خدمة رأس المال الجشع بطبعه، يفاقم الفقر والاستغلال والعطالة.

والعلم الحديث الذي تُنْتِج معارفه الطبيعية والإنسانية والتِّقنِيَّة حرية الإنسان من أسر الطبيعة وتقدِّره على فهم قوانينها وامتلاكها والانتصار على الزمن والجغرافيا والمرض وخشونة العيش والخرافة والعادات الرثة... إلخ لم ينفك عن قلق العدمية، وعن التمركز والتحيز، وظل في حاجة إلى أصل متعال لاستمداد المعاني والأخلاقيات التي تهذب وحشيته وماديته. وليست الأديان خارج هذه السياقات، فأعنف ما عاناه البشر طوال التاريخ هو الحروب الدينية، وأعنت ما قاسوه من قهر كان باسم الدين الذي هو في الأصل تحرير للإنسان، لأنه يضع عن بني البشر (إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)، كما أخبرنا القرآن الكريم (الأعراف: آية 157).

هذا، إذن، يعني أنه لا يمكن أن نفهم الحرية خارج الضرورة، ولا أن نجدها معلبة وجاهزة، أو أن يمنحها أحد لأحد. ولهذا ظلت الحرية نظرياً عصية على التعريف، وبرجسون (-1941م) هو من قال: «إن كل تعريف للحرية لا بد أن ينتهي إلى تقوية حجة أنصار الجبرية» وهو المنطق نفسه الذي جعل لوي لافل (-1951م) وكارل ياسبرز (-1969م) وجابريل مارسل (-1973م) وغيرهم يجتمعون على استحالة تعريف الحرية، لأنها ليست موضوعاً بل فعل ووجود، والفعل الذي أتعقل به الحرية -كما يرى مارسل- هو عينه الفعل الذي به تكون الحرية. وكل معرفة نظرية عقلية تفترض، عند لافل، وجود ضرب من الانفصال بين الموجود العارف والموضوع الذي يريد أن يعرفه، وذلك لا يتأتى في الحرية التي لا يتم التعرف عليها إلا في صميم الفعل الذي به تمارس وجودها.

وهكذا تستحيل الحرية من حيث هي وجود وشعور إلى كسب وإنجاز وممارسة، بالمدلول الاجتماعي والدولي وليس الفردي، وتستحيل العدالة والأمن والتعاون والتسامح، كما تستحيل القوانين والأنظمة، إلى أجزاء عضوية في تكوين الحرية ووجودها لأنها تصنع مجالاً لإرادة الفرد واختلافه وإمكانات تحقق وجوده الذي يرضاه وذلك هو لب لباب الحرية.

والمؤكَّد أن إشكالية الحرية، أخذت منعطفاً حاسماً، بتبلور مفهوم الليبرالية وأفقها النظري، حيث ولادة مفهوم الفرد، ومفهوم الإنسان، وهي الولادة التي آذنت بانبثاق الزمن الحديث. والمعنى الذي يكمن وراء ذلك هو تحقق نظام اجتماعي اقتصادي وثقافي يمتلك فيه الكائن امتياز الصدور في أفعاله عن إرادته هو لا عن إرادة غيره، ومن ثم أن يتساوى الناس جميعاً في الإنسانية وما يترتب عليها، وتنتفي التمايزات العنصرية.

وقد أحال عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (-1920م) بداية ذلك في أوروبا على سببين هما: روح الرأسمالية، والأخلاق البروتستانتية. ورأى أن الرأسمالية لم تنشأ إلا في تلك البلاد التي تحولت إلى البروتستانتية، مثل بريطانيا وألمانيا وهولندا، لأن البروتستانتية -على عكس الكاثوليكية- تدعو إلى العمل والإنتاج وتكوين الثروة.

وهذا يقودنا إلى تجليات الحرية التي تتبادل معها دلالة المفهوم، فحرية الإنسان وجه من وجوه قدرته على اكتشاف إمكاناته وتحقيق ذاته، والفهم للدوافع الذاتية للعمل والكسب والفهم للوجود الإنساني بأسره هو الفهم للحرية.

وإذا كان أهم ما في البروتستانتية، هو إزاحة سلطة الكهنوت الديني، وإنكار تحكم رجال الدين، وإلغاء شفاعة القديسين وغفران البابوات، وهو ما يعزوه بعض الدارسين إلى تأثر بالإسلام، فإن ما أنتجته البروتستانتية من حرية الفرد الدينية، يتضام مع ما أنتجته فلسفة التنوير عن تحرر الإنسان من حالة العجز والقصور حين يستعمل فكره خارج وصاية غيره عليه، ومع تطور نظرية المعرفة الحديثة باتجاهها إلى التعظيم للفعل النقدي والحواري. وهي الأفكار التي تلاقحت في الفلسفة السياسية مع مفهوم الدولة الحديثة التي تغدو عند اسبينوزا (-1677م) وسيلة لبلوغ الحرية، ومع مبدأ التسامح عند جون لوك (-1704م) ونظرية العقد الاجتماعي عنده وعند روسو (-1778م) وروح القوانين عند مونتسكيو (-1755م)، أي تلك الفتوحات التي رفضت التعصب، وكشفت عن ضرورة الحرية لبناء عقد اجتماعي، بحيث يستحيل أن نتصور رعايته وصيانته بالنزول بالأفراد إلى مستوى العبيد، إضافة إلى فلسفة القوانين بمنطق الحرية نفسه فالمجتمع بلا سيادة قانون لن يكون مجتمعاً حراً، والفرد حر في العقد الاجتماعي لأن القانون يعبر عن إرادته الخاصة، وذلك في ضوء آليات التعبير الحر والفصل بين السلطات، ثم إن من الضروري –كما نادى مونتسكيو- أن يتكيف القانون والنظام السياسي مع ظروف كل مجتمع.

ونتيجة هذه الحرية بدلالتها الليبرالية، باهرة؛ فهي التي منحت مجتمعاتها داخلياً استقراراً سياسياً، وشفافية، وعدالة، وأمناً. وهي التي دفعت المجتمعات إلى العمل والإنتاج والتنافس، وأتاحت للإمكانات والمواهب والطاقات أن تتفجر وتغتني، وللإبداعات والابتكارات أن تتحقق وتتكاثر. والوقائع والأحوال والإحصاءات والمقارنات شواهد على ذلك. وهنا نبدو عملياً كارهين للحرية، وتبدو كراهيتنا للحرية وكأنها غطاء لتمسكنا بالتمييز والتعصب بين أفراد مجتمعاتنا، وشغف بالعنف والاستبداد، ورغبة في أجواء سرمدية معتمة ومنغلقة وغير شفافة، وانقسامات لا تكف عن التوالد والتصادم وتفتيت المفتت، ونفاق وخوف وأنانية وهدر للحقوق. كأننا نشعر أننا أقل مسؤولية تجاه وجودنا، وأكثر إيثاراً للجهل والبطالة والتخلف والكسل، كأننا أقل شعوراً بالمعاني الوطنية، وأقل جدارة بمعاني الحياة وعمران الأرض والرقي بالإنسانية، وأقل محبة للحوار والتفاهم.

ولم أقف وأنا أتابع جدل الحرية في أعقاب محاضرة الغذامي على أعجب من سؤال (الليبرالية الإسلامية) التي تشبه القول برياضيات إسلامية أو قطار إسلامي، ولا على أعجب من الأدمغة المحشوة بأخطار الحرية على الدين والأخلاق والوطنية. فالقائلون بالليبرالية الإسلامية لم يفصحوا لنا على أي مذهب ستكون، أو بأي زعيم من زعماء الجماعات الإسلامية ستهتدي.

إن إثارة التسمية على هذا النحو تأكيد لسلطة بشرية معينة مهما تذرعت بالدين، وهي سلطة إيديولوجية بالضرورة. وإذا كان الحديث عن الحرية هو في منطقة المباح الواسعة، أو مدار شؤون الدنيا التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بشؤون دنياكم» فإن من مهمة الإيديولوجيا التي تأخذ اسماً دينياً، لن يكون المحرم الذي يجب أن يعرفه كل منتمٍ إلى الدين، بل توسيع نطاق الأحكام في منطقة هذا المباح، والتحكم به.

أما ما حُشِيَت به الأدمغة عن أخطار الحرية على الدين والأخلاق والوطنية، فهو فعل ممانعة ضد التغيير، وضد التطور، وضد الاتساع في فهم المقدسات والمعاني والقيم الثمينة، وبالقدر نفسه تماماً ضد الاتساع في أمر الدنيا. فليس هناك مجتمع حر بلا قوانين، والقوانين هي التي تحمي المجتمع من كل أخطار الفوضى والهرطقة والانحلال والتصارع والجريمة، لأنها مستمدة من ركائز ثقافته ومعاني كينونته.

لكن القوانين الحرة تستوعب رغبة المجتمع في التطور، ورغبته مجموعاً في سيادة القوانين التي تعبر عن عقده الاجتماعي، والتي تصنع حرية الأفراد لأنها تعبر عن إرادتهم، وبذلك تنشأ المسؤولية الذاتية، وما أعظمه من خطر ذلك الذي لم يفكر فيه أولئك الكارهون للحرية حين تغيب المسؤولية!

إشارة:

أشكر للأستاذ الدكتور إبراهيم الشمسان، تعليقه في موقع المجلة على مقالي الأسبوع الماضي، وأعبر له عن بهجتي به. لقد كانت الرصانة والاستيعاب والموضوعية مطبوعة مع كرم الأخلاق ونبل الإنسانية في بصمة أبي أوس التي لا تخطئها عين. كم أنت كبير يا أبا أوس! وكم علينا أن نغتبط بأمثالك! كما أشكر الأستاذ علي الألمعي، وأقدر له متابعته. وللقراء الأعزاء تقديري الجم واعتذاري عن التوقف في الأسبوعين القادمين لظروف الامتحانات والإجازة، وأدعو الله للجميع بالعون والتوفيق.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة