من حقائق الحياة أن يكون بيننا والآخر مسافات شاسعة نتفق فيها ونختلف، من لغة ومأكل وملبس وعمل وسكن وفكر ووطن، والحياة في هذا الكون امتداد لا نهائي من الاختلافات، وقصور يرى في الاتفاق، وإن توحدت الغايات والتوجهات تظل ثقافة الفرد الخاصة بصمة فكر استثنائية من المحال أن يوجد مثيلها، والكل يدرك هذه الحقيقة أكان ناطقاً بها أم محدثاً بها نفسه، ولعلنا نكون من أكثر الشعوب إيماناً بها فهي نهج رباني خاطبنا به خالقنا.
وعلى الرغم من ذلك نجد أن سعة اختلافاتنا مع بعضنا من أكثر الأمور القادحة بقناعاتنا، ينبري بعضنا قدحاً وذماً وبعداً فادحاً عن تقبل لاختلاف الآخر واحترام لفكره، وأن ظهر جلياً خطأه إلا أن محركه الذاتي يشير إليه أن هناك تعدياً لفكرك فأيقظ حربك! وهنا تظهر لديه الاختلافات وكأنها تعدٍ عليه فتتهاوى اللغة الواحدة إلى سفاسف الكلمات وتنحط الأفعال إلى الأقبح وإلى أدنى ما كانت عليه الجاهلية الأولى، هو فقط اختلاف فكري إلا أنه ما أن يظهر إلا وتعلو جحافل صوتية مدمرة للغة الحوار والأخذ بحسن الكلام بدعوى الأفضلية والشعب المختار!.
يقول الشاعر معروف الرصافي:
ماذا جرى بيني وبينك قبل ذا
مما يجُر خصومة وجدالا
حتى شهرت عليّ سيفك تبتغي
ضربا يقطع مني الأوصال
إننا نحيا حياة واحدة، والأرض رحبة ندور فيها ما بين الأخذ والعطاء والكلام والإنصات لا الاستبداد والعبودية، ومع هذا يود البعض أن يفنيها هباء فلديه قوة خارقة لحفر خنادق من الكراهية المظلمة القاتمة وأعاصير مدمرة لمعاني الكرامة الآدمية. من المهم أن ندرك أنه بيننا والآخر اختلاف أبدي، منذ أن نبضت الأرض بأنفاس بني الإنسان، إلا أن الكثيرين يجهلون أن هذا الاختلاف هو المحرك الأول الذي يعمل على ديمومة الحياة، وتطورها، ولكم هناك من حكمة نجهلها، وعالم يحتاج لأن نحتضنه قبل أن نرمي سهام الدافعية عليه فيزداد حنقاً علينا. يحتاج إنسان اليوم لخطاب فكر لفكر فيه من المسافات البيضاء ما يدفعه للأخذ والعطاء والرغبة في الإقدام والسؤال بلا خوف من سهام الجهل من رفض وفضح سريع يحيل المسافات البيضاء إلى مسافة ضيقة غارقة بالدماء.
أن يقيننا بالاختلافات التي يحملها الإنسان منا ويتفرد بها كبصمة أنامله المتفردة وأعينه المبصرة، تتوجب علينا أن نجعل من أرضنا موطنا يهاجر ويلتجأ إليه ليغدوا شعاعاً من الفكر الحواري المشع.
هذه الأرض التي تقف عليها هي الكون بأكمله، والفكر الذي تؤمن به إن أنت خطوت نحو الآخر ممن تختلف معه بتفهم وتقدير لرأيه تكون قد قدت العالم بأجمعه إلى السلام ولتحقيق الأهداف الكبرى التي نجد الجميع يتفق عليها فالشخصان اللذان يختلفان على الوسيلة الأفضل للنهوض بمجتمعهما من المؤسف أن يجعلا الخلاف الأدائي أول المعيقات نحو تحقق هدفهما المشترك ألا وهو النهوض بالمجتمع. لذا في كثير من أمورنا علينا أن نخلق مسافة بيضاء شاسعة نضع فيها مع الآخر اختلافاتنا بكثير من الاحترام
وحينها فقط ستكون المسافات البيضاء بساتين وحقولاً مشرقة ومبهجة من الإنسانية والكرامة الآدمية وسوف تتوحد الاختلافات وتنبع نبعاً عذباً يسقي العقول وينير البصائر بلغة واحدة هي لغة الاحترام، يقول أنيس المقدسي في ذلك: إن احترام النفس أول دلائل الحياة.
هي الحياة بتنوعها وتقلبها إن امتدت بها حياتنا أم قصرت نحتاج فيها للآخر كما يحتاج لنا وسنلتقي معه في محطات حياتنا شئنا أم أبينا، ولكم هو مؤسف أن يكون لقاؤنا خلاف يخلفه عناء، وهروب يتبعه جفاء، ورمي لسهام الغدر قبل أن يبادر بالاحتواء، فلا تكاتف للسواعد ولا تآلف للقلوب، وضياع لمسيرة البناء وتحقيق الغايات التي كانت السبب في اللقاء. لقد حان الوقت لأن نتسامى ونتوحد مع غاياتنا بمسافات بيضاء شاسعة بروح تعبق بالنوايا الطيبة والتقبل الكبير للآخر.
البكيرية