شعر سليمان الفليح مرتحل على الدوام في معانيه البعيدة، ومجسد لمدى اللوعة للإنسان العربي الذي بات لا يعرف أين تيمم ركابه بعد أن شح ماء اليقين، وعلا السراب الرقاب حتى أصبح القوم يهيمون بأوهام تشبه الأمل، فها هو يستنجد بالشعر الذي يراه ذاكرة لا تهرم، ويتيقن بالمعاني فَرَجَاً وبالأماني مخرجاً من منغصات كثيرة عرضها بشكل شيق في ديوانه الجديد «البرق فوق البردويل».
تسير ركاب القصائد في الديوان عبر مفازته «الحماد» .. فهو البارع دائماً في الغناء حينما يتراسل ذلك الصوت الشجي عبر الفيافي ليطنب في وصف محاسن زمن لن يعود.
موجع قلب الشاعر الفليح لأن القصائد في ديوان (برق البردويل) تذيع وعيه، وتكشف للقارئ الكثير من الصور الحية والمشاهد الإنسانية المدهشة على نحو القصيدة التي تحمل اسم الديوان (ص21) حينما سكب في أوردة الذائقة معنى «الحماد» .. شسعة البيد وتمادي أفق الرمل، لتتهادى القصيدة وكأنها ملحمة تسرد فضاء الحياة للعابرين نجوع البداوة حينما يهرب أهلها عنها إلى ما هو أسوأ وأقسى على الذات.
قصائد الديوان الأخرى ترحال عذب لخيال الشعر الذي يجاذبه الفليح بلون حزين ليمتاح من جب الحكايات القديمة ذلك الألق الفاتن لرحلة (كان ما كان) إلا أننا لا نحرك ساكناً حتى وإن جأر الشاعر وبكى حرقة المآل.. فنحن في إغفاءة، بل قل عنها إغماءة عن الشعر الرامز للحياة.
يحضر سيد الشعراء «المتنبي» في الديوان مكللاً بضياء لغة السمو في قصيدة تزاوج بين نصين للشاعر مع ما سواه من شعر عربي خالد رغبة أولى في المعارضة بوصفها فناً، وأخرى لسكب مزيد من الزيت على نار الحقيقة حينما يشير إلى أن الشعر لا يزال قادراً على إضرام «قبسة» الوفاء لشعر يعول على القول ولا يسترشد بالفعل منذ المتنبي إلى الفليح وما بينهما من شعر وشعراء لأن القضية « المعنى» في بطن الشاعر،كما تقول العرب حتى يئسنا من خروجها من العقل الباطن أو حتى من الرفض المبطن لواقع يريد أن يدجن الجميع.
يُطَوِّفُ الشاعر بنا أركان الحكاية العتيدة للقصيدة التي يعيد نشر بيانها، إذ لا يكل الفليح أو يمل من بوح الألم حينما يقارب بين ماض لا تستره سوى القصائد والذكريات وواقع لا تعرف كنه وجوده رغم أنه ينهب العمر منك وهو يمنيك بأن يهبك شيئا من الحقيقة التي تتوق إليها على نحو قصيدة «القتلة» الديوان (ص54):
«مات عنك الرجال العظام
ومات زمان البهاء،
الصفاء،
النقاء،
ومات بك زمن (المرجلة)»
يحتفي الشاعر الفليح في المكان، لنراه وقد طَوَّف في الكثير من الشواهد التي كان لها حضور في الذاكرة، وتشبث في الوجدان، فلم يتخل عن حنينه للأرض، ولم تغادر وجدانه تلك الانثيالات المعبرة عن احتفاء فائق في تضاعيف تلك المدن التي مر بها، أو تلك الوجوه التي قاسمته اللقمة حينما ضاقت بالشاعر السبل.
حوت قصائد الديوان جانباً مهماً من جوانب التوثيق لبعض الأماكن التي عني فيها الشاعر، إلا أن هذه المقاربة مشحونة بهاجس أليم، ورؤية فاجعة وتوق شفيف إلى المعاني الجميلة رغم ندرتها في تلك الأماكن التي تواترت على هيئة خطاب إنساني يفصح عن قدرة مميزة للشاعر الفليح حينما يؤرخ لسيرة المكان بهذه الشعرية المتوامضة، إذ تراوح القصائد بين التوسط والقصر فلم يشأ أن يشق على القارئ بالإطالة فهو يدرك بملكة الإبداع أن ما قل من الشعر المفعم بالمعنى يغني عما استطال من بكائيات الشعر ومناحاته.
***
إشارة:
البرق فوق البردويل (شعر)
سليمان الفليح
النادي الأدبي بالجوف (1431ه)
يقع الديوان في نحو(132صفحة) من القطع المتوسط
هذا الديوان هو العمل الشعري السادس للفليح