مدخل إلى الرمليَّات
ترتكز لغةُ الشاعر السُّعودي «محمد عواض الثبيتي» في مجموعته الشعرية الكاملة الصادرة عن دار الانتشار العربي في بيروت 2009م على عنصر لغوي أساسي يكاد يتوحد في كل الدواوين الشعرية التي ضمتها المجموعة وعليه ينضوي البناء الشعري في تراكيبه الفنية، حيث تتكامل الرؤية في قالب الرمل ومرادفاته الفرعية من غبار وعجاج وتراب وثرى، فأصبح للرمل لغة فنية متميزة استطاع أن يفذلكها الثبيتي ويهندسها في معمارية الرَّمز ودلالات المعنى واستفرد فيها شاعراً بدوياً عشق البيداوات وهام في مفازات الجزيرة العربية وغاص في رمالها الذهبية واستخلص منها لغته الشِّعريَّة الفريدة وشكَّل مُعجمه اللَّفظي منها.
ففي بدويَّاتِه العارمة والتي تضجُّ بها أشعاره يلاحظ المتمعن فيها كيف لجأ إلى الرمل ومشتقاته ليصنع منها لغة شعرية فنية تكاملية المعنى مازته من بين بقية أشعاره فنجده يغوص في أحرف تلك اللغة وفي الفصول كافة، ومن على صهوة الرمل ومن بين أمواجه المتحركة بآمالها وآلامها وصديدها وحمى ذعرها يخطُّ كتاب الرمل ويرسم أوردتها السمر على وقع ناقوس بقاياها فتتشكَّل لديه إستراتيجية اللفظ في جُغرافيَّةِ الشِّعر البدوي الأصيل المضمَّخ بعبق الخزامى وريح الشَّمال..
ومن واقع إحصائية اللفظ في المجموعة فقد ورد ذكر لفظة «الرمل» ما يقارب (45 مرة) بواقع (16 مرة) في ديوان «التضاريس» و(15) في «تهجيت حلماً تهجيتُ وهماً» و(6) في «موقف الرمال موقف الجناس» و(8) في «عاشقة الزمن الوردي».. إضافة إلى مرادفاتها من التراب والغبار والعجاج والطين والثرى.
ففي قصيدة «سألقاك ِ يوماً» من ديوان (تهجيت حلماً تهجيت وهماً) ص136 يقول:
أعرف أن الطريق إليك ِ
مرافئَ للحزن
وأرصفة للسراب
وأن مسافاتك الدائرية
تتعب فيها جياد السفر
وأعلم أنكِ هاجرت ِ في ذاكرة الرمل
أزمنةً وعُصُورا
فهو يوظف مصطلح الرمل توظيفاً بيولوجياً حيوياً غائراً في جسد الحياة ويجعل له ذاكرة تختزن هجرة حبيبته لتختصر الأزمنة والعصور في مسافات دائرية تتعب فيها جياد السفر..
ميثولوجيا الرمل
وحتى حينما يتغزل في شهرزاده ورحيلها في أعماق الميثولوجية وأسطورة الخيال فإن رمال بداوته لا تفلت منه فتثيره ضفائرها الساحلية المجدولة بالعواصف والريح والمنسوغة من دم النبع ومن وجع الدمع ورحلة الاشتياق الطويلة فوق الرمال.. فيقول في قصيد «شهرزاد والرحيل في أعماق الحلم» ص 143 من ديوان «تهجيت حلما تهجيت وهما»:
وفوق الرمال
تموجُ ضفائرُكِ السَّاحلِيَّةِ
مجدولةً
بالعواصف والريح
منسوغة من دم النبعِ
ومن وجع الدمعِ
من رحلة الاشتياقِ الطويلة..
انصهارات رملية
وفي موضع آخر نجد الثبيتي يصل إلى حالة الذوبان في الرَّمل ويمتزجُ معه ليصير تارة بذوراً وأخرى جذوراً وما بين البين بخوراً أصيلاً ينفذ إلى رئةِ اليمِّ لتفتر في رأسه الخيول العربية الأصيلة على وقع الطبول ورقصة الانتشاء في حداءٍ بدويٍّ يبدأ من داخله.. يقول في ص151 من ديوان «تهجيت حلما تهجيت وهما»:
الطبول.. الطبول
رقصةٌ تنتشي في حدائي، طريق
المجرة يبدأ من داخلي
فامتزجتُ مع الرمل..
صرتُ بذورا
وصرتُ جذورا
وصرتُ بخورا
نفذتُ إلى رئة اليمِّ.. طافت برأسي
الخيول الأصيلة..
وغالباً ما يربط لفظة «الرمل» بظروف زمانية ومكانية مع حروف الجر لتكسبها معنىً براغماتياً يحيلُ المعنى إلى حقيقة ملموسة وواقع معاش «فوق الرمل/ في الرمل/ مع الرمل/ للرمل»..
ومن بين البراعم المثقلة بالسؤال والرياحين المصبوغة بدماء الطفولة والمشبوبة بغرام الطقوس وعند الزمن المتسربل بالوهم تتألقُ الرمال في صورة عروسٍ جميلة قد تفنن الشاعر في نحتها من العاج والأبنوس في مساء خرافي منتظر تُضيئهُ قناديل العشق وكؤوس الهوى المترعة وتلألؤ قسمات وجوه المحبين التي تخرق صمت المسافات والأمد السرمدي وعلى رائحة الشمس والطين..
خلقُ الأخيلة
وفي مقطعٍ آخر من القصيدة نفسها نراه يبدع في تركيب صورة فنية خلاقة جديرة بالتمعن وإعادة قراءتها مرات فتجده يخلق تكويناً فنياً تكاملي البناء ومتحد العناصر فالأفق اللازوردي في فترة المساء وبعد أن اختزل الوجد أزمنته المضاءة بقناديل الردهات ومن حول قباب المدائن تمر سحابته لينهمر أفقه اللازوردي مفككاً ليعيد تركيبته من عناصر الوجود التكاملية «نور ونار وماء» فتتضح نظرته الثاقبة لحقائق الأمور وكنه الوجود حيث هاجس الأنبياء..
ومن الرمل يزرع الشاعر خطواته المشتعلة نحو الرحيل المطلق وشعاعاً من شذا الدهناء وهلالاً راقص اللون على وجه المساء الطفل الذي لا ينوي الأفول وتلك الصورة فاصلة من فواصل ألحان بدوي قديم سماوي الهوى قد ولِد من رياح الليل وطول السفر ورسم الشوق على أهدابه لغةً عليا وعمراً مستحيلاً قد استرقت الصحراء من عينيه موال الصبا الليلي واللحن الجميل.. وبإعادة القراءة لمطلع القصيدة «فواصل من لحن بدوي قديم» ص173 تتمخض صورة الرمل وتتعدد استعمالاته فهو خطى ورحيل وشعاع وهلال.. وحينما تحلو له تحية ديار عبلته وابنة عمه الحبيبة وموطن ذكرياته الجميلة فإنه يحييها بتحية البدوي العاشق للمفازات والممتزج وجداً بالبيداوات فيذر على شعرها الذهبي الرمال والرمال فقط وكأنه ياسمين وفل وزهر فتتنامى لديه بنيوية اللفظ ودلالاتها التركيبية ذات المعاني المتأرجحة ما بين الخيال والحقيقة.
إيقاعات الرمل
وعلى وقع تقطيعات بحر الرمل الخليلي وموسيقى تفعيلاته العروضية الهادرة تنسابُ لغته الرملية رقراقة بين أشطر قصيدته «ليلة الحلم وتفاصيل العنقاء» وتنساب الروح شفافة بانسيابية الوحدة العضوية في النص ومن على موج الرمال يجيء زورق الحلم
من الصحراء ممشوقا كمارد
كشهاب فصلته الريح من قلب عطارد
ينبري كالهمس، كالرؤيا..
يحلق كالنعاس
جاء محمولا على موج الرمال
جاء منحوتا على ريح الشمال
جاء كالليل الغريب
جاء كالصبح المريب
فيه من رائحة الفردوس أسرارٌ مضيئة
ومصابيحُ جريئة
فيه نهرٌ من رحيق لا يزول
فيه أطفالٌ وأشباحٌ وخوفٌ وذهول.
وفي تفاصيل العنقاء وليلة الحلم يبلور حالة القلق المريبة في عيني عنقائه سراً غريباً من بقايا الوحي ومن ذعر الرمال فيخلع الحالة الشُّعورية على الرمل ويضفي انفعال الذعر الذي هو أشد من الخوف على الرمال:
قلق الفيروز في عينيك
شيءٌ من بقايا الوحي.... من ذعر الرمال)).. ص190..
فبوساطة الخلق التصويري الفريد والإجادة الفنية الموازي لانفعال الشاعر استطاع الثبيتي أن يعيد تحليل وتركيب البناء اللغوي وذلك ببث حيوية مخصبة في الألفاظ الشِّعريَّة وأزال عنها رتابتها ونفض نمطيتها..
وتتماثلُ لغةُ الرَّمل اصطفاءً جوهريًّا أغنيةً للماء حينما يطلب من محبوبته أن تسكبها في يده لترتجل الوقت والشوق من قرارة حزنه المعتق بعطر الصحاري ورائحة الليل والأقحوان فتتكامل لغته الرملية لفارس الوعد الآتي من ذرى المستحيل حيث حبته الرمال من صوتها فانتشى زمنُ الكبرياء في بقايا أغنيات في صفحةٍ من أوراق بدوي هدهد العشق في مرعى شويهاته ومن فوق غرته توزع الشمس أنوار الصباحات..
ترويضات لغوية
واستطاع الثبيتي ببداوته الأثيلة وفروسيته اللغوية العصية أن يطوِّعَ أحرف الرمل ويجعلها تنصاعُ جرياً بين خطواته ينسقها وينظمها بطريقة مؤدلجة بحيث يخرجها عن عاديتها ليجعلها بالتواشج مع سواها شعرية متميزة وذلك بطريقة التركيب وبالمساق الذي تردد فيه فهو ينتعل الآفاق مانحاً إياها جرحه باحثاً فيها عن بداياته فيقول في قصيدة «صفحة من أوراق بدوي» ص205:
أتيتُ أركضُ والصحراء تتبعني
وأحرف الرمل تجري بين خطواتي
أتيتُ أنتعل الآفاقَ أمنحها
جرحي، وأبحث فيها عن بداياتي
عرَّاف الرمل
وفي «ترتيلة البدء» من ديوان (التضاريس) يجئ إلينا عرَّافاً للرمل كاشفاً أسراره يستقصي احتمالات المستقبل ويبتاع الأساطير الخرافية عبر قراءات اللغة الصامتة الشاهقة التي تمتد في جذور الماء وتنفضُّ منها اشتهاءات التراب.. وللرمل عند الثبيتي غواياتٌ تستهويه مع فرسٍ جموح تُكسِّر حدود القيظ قد حصن عفتها برُقْيَةِ فاتحة الكتاب وأسرجها بالحلم والشهوات وبالصبر الجميل ومن بين جماليات الرمل وصفاء تركيبه يبرع في صياغة فصل ٍدرامي من أسلوب الحكاية وسرد الأحداث فيمضي في وصف الحدث الشِّعري حيث يهتزُّ عرشُ الرمل وتتناثر قوارير السحاب فتكامل اللوحة الرومانتيكية بالتقبيل والعناق والمناجاة.. ومن كتابات الرمل في قصيدة «الأجنَّة» تضاريس ص93 يتلو الثبيتي الأحرف الأنثى ويتصفَّح مسافات الردى حيث البدو والحانات وموج الأرصفة وخيول الليل تمطر اشتياقاً على البيداء ونبوءات البروج قد احمرَّت وقوافل الدهناء صادية تستسقي ماء السماء.. وفي تغريبة القوافل والمطر يكشف عن مآثر ومدافن أسرار الراحلين المتسابقين في وِرد الماء حيث رمال الجزيرة التي منها قد عُتِّقوا واستودعتهم بكارتها فمنها عجنت همتهم ووردوا مياهها رغم بعده واستحالة وصوله..
قراءات وآيات
وفي آخر قراءاته في تضاريسه المسهبة في البداوة والصحراء يحيل الرمل فجراً وسيماً كالشاب الأمرد الذي ينثر طلع الندى الهامي من يمناه على الثرى العاري ليوغل في صدر المدى جمالاً..
ومن بين خمس آياتٍ مضاءة لامرأته التي انطفأت في السراب يعود الثبيتي البدوي شاهرا أجنحته يمتطي صهوة الرمل حيث قمة الشيئية وغاية المدى ليجوب العذاب بكفنٍ معمدٍ بالتراب..
ويلهث الشاعرُ اشتياقاً لعاشقة زمنه الوردي ما بين المواسم وفي الليل بين طرقات المدينة عله يجدها إذ بها تتوهج أسطورةً وأغنية حزينة وقصيدة حب على الشاطئ وليس أي شاطئ بل شاطئ الرمل حيث تتجسد فيه جماليات الوعد الذي يفترس كل الأساطير خلف ضبابية العصر وأزمنة الرفض وعلى شاطئ الرمل لا يزال صوتها ساهراً في شرفات القمر.
وقد بلغ امتزاجه بالرمل وذوبانه في أنه صار يرسم ملامح وجهه وقسماته البدوية الأصيلة من الرمل ومن رمل الصحراء اللاهث وهكذا هو يجيب لكل من يسأل من أنتَ؟؟
من أنت؟
شيخٌ من عبس
وجهي رمل الصحراء اللاهث..
وتبدو لقمةُ عيش الثبيتي العزيزة المنال والتي صارع الحياة بمتاعبها لأجلها ممزوجةً بحبات العرق وذرات الرمال ليؤكد بذلك ما لهذا العنصر التركيبي من أهميةٍ لديه حيث إنه المادة الأساسية في تكويناته..
موقف الرمال
وللرمال موقفٌ مع «محمد الثبيتي» فهو يستوقفها ويصادقها ويتأثر بحمتها ويستسقيها إن ظمأ ليصوغ من آلامها قدحاً ومن آمالها إبريقاً يمخر فيها صباح التيه في ليالي المدلجين عساه يلقى الطريق حيث المحاق الذي يلوح في أقصى الظلام..
وحينما يمارسُ شعائر حزنه في مرثيته لهاجسة صحوه فإنه يحتار ماذا يسميها!!؟؟ وفي لغته الرملية ذات الألفاظ الصحراوية والتراكيب البدوية الحارقة لا يتردد في أن تكون تسميتها بقارئة الرمل ولا عجب في ذلك فهو من الرمل وإلى الرمل وفي الرمل احتمالاته وتخاطيط عمره عبر الأزمنة الغابرة ومن خطوط الرمل تتمكن أن تفسر صمته وهذيانه بلهجة الموت واللغة المستحيلة وكأنه يشير إشارة خاطفة إلى لغته التي اختارها لنفسه واستفرد بها بين كتاب القصيدة الحديثة في زمننا الحديث والتي لن يفهمها إلا من عشق البيد وهام في أسرارها وخزائن كنهها والرمل أعمقها وأكبرها وأبرزها..
خاتمة:
ولا غرو في أن يكون شاعر البيد «محمد الثبيتي» عراف الرمل وكاشف أسراره ما دام نجح في سبر أغواره وتفكيك جزيئاته وتكوين لغة شعرية فريدة من نوعها احتوت تراكيبه وأسسه وعناصر حيويته فاكتمل بناء القصيدة الثبيتية الحديث بحداثة استعمالاته وجودة إتقانه وكثافة تصاويره وغزارة ثقافته ومدى استيعابه أهمية هذا العنصر الوجودي عند الإنسان العربي الأصيل وانعكاسات ذلك على لغته وشعره وأدبه وحياته جمعاء.