كان المبتدأُ علاقةَ صبي لم يتجاوز «الثانية عشرة»؛ فقد عهد نفسه حفيًا بما يفد لمكتبةِ والده - رعاه الله - من جديد بعدما كاد يحفظُ عناوين القديم؛ فرأى مجلةً في هيئة كتاب كبير وعليها إهداءٌ لمدير معهده «معالي الأستاذ الدكتور عبد الله اليوسف الشبل»، وأدرك أنها «مجلة كلية الآداب»؛ فسأل والده عنها، وفهم أنها وصلت لمدير المعهد من صديقه الأستاذ في الجامعة، وهو بدوره أعاره إياها، وقرأ فيها - لأول مرة - نمطًا جديدًا من المجلات المشتملة على بحوثٍ مُحكمة، وكادت الذكرى تندثرُ لولا أن أراه أستاذُه الدكتور عبد الله الغذامي - قبل شهرٍ أو نحوه - كتابًا للدكتور محمد مندور (الأدب وفنونه) مهدى من أستاذ الجامعة نفسه «عام 1386 هـ» للشيخ الوجيه طالب العلم المعروف عبدالرحمن العبد العزيز الزامل - رحمه الله - ووصل إلى «أبي غادة» عن طريق صديق عمره ابن الشيخ الأستاذ إبراهيم الزامل (أبي أوس).
ربط الحكايتين كما فهمهما برجلٍ يُهمه نشر المعرفة، وقلةٌ في حياتنا من يهدون أو يتهادون الكتب، بل ربما ضاق بعضنا بما يصل إليه اكتفاءً أو انكفاءً، ولم يعجب حين علم أن «الأستاذ» قد أهدى مكتبته الخاصة للمكتبة المركزية بجامعة الملك سعود التي نثرتها بين رفوفها ولم تحفظ لها مكانًا خاصًا يليقُ بصاحبها، وربما حال الحيز المكاني دون ذلك؛ ليبقى المهم في الأمر سجيةً رائدةً تنحو بالخير «الثقافي» ليعم الانتفاعُ به.
ذاك دورٌ أولُ، وله دور آخرُ في حياة جيلنا حينما عرفنا من الدكتور الغذامي في كتابه حكاية الحداثة أنه السبب في إشراع باب قسم اللغة العربية بكلية الآداب أمام خريجي المعاهد العلمية؛ فامتد لهم أفقٌ مهم لتغيير الاتجاه الإجباري نحو كليتي اللغة والشريعة، وذاك - في زمنه - فتح كبير.
رجلُ علمٍ وخيرٍ حزم أمره فسعى وبذل، ثم أدرك أنه قدم ما لديه فغادر الجامعة - وهو في أوج عطائه - وترك الرياض ليستقر في مدينته؛ مكتفيًا بكتابات متفرقة وعضويات محدودة في مجلس الجامعة ومجلس المنطقة ومركز ابن صالح؛ ثم اعتزلها جميعَها، راضيًا بصحبة قليلة من جماعة الحارة وأصدقاء الوفاء، مستعيضًا بوقت جميل يقضيه قريباً من بيوت الله؛ يتابع الأخبار ويتحاور حولها؛ مودِّعا الأدب ونظرياته؛ فقد تخرَّج على يديه من الباحثين من يستطيعون مواصلة المسار، مؤمنًا أن: «لكل زمان دولةً ورجالا».
كانت له محاولةٌ قصصية أصدرها في كتيب تحت عنوان (العقارية) يبدو أنه لم يستكملها، وآخر كتبه (نحو أدب يصلح الأرض العربية ولا يفسد فيها) وبينهما أبحاثه المرجعية المهمة في تأريخ الصحافة والطباعة وتطورها والنثر الأدبي والتعليم التي ما تزال مُتكئًا لما جاء بعدها من دراسات، ولعله اكتفى بها عن المتابعة البحثية في الشؤون الثقافية؛ متعللاً بالكِبَر وضعف النظر؛ ليبقى عازفًا - باقتناع - عن المشهد الثقافي، وحين كرمه ملتقى الأدباء السعوديين قبل عام أناب ابن أخته الصديق الدكتور عبد الله الجريفاني للحضور عنه، وفي سلوكه مُتأملٌ لمن يركضون خلف المناصب والظهور، وهي نصبٌ وتمظهرٌ لو يعلمون.
الأستاذ الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشامخ (عنيزة 1933 م) من أوائل المبتعثين الذين كان لهم دورٌ في تغيير واجهة الوطن الأكاديمية والثقافية، وليته يحكي تجربته؛ ففي انقطاعه التام عن الحراك الثقافي - وقد كان أحد مكوناته - ما يشير إلى مقاومة صامتةٍ للواقع المعرفي والإبداعي شاء الاحتفاظ بها لذاته بعدما أدرك أن الزمن لم يعد هو الزمن.
الشموخ اسمٌ وسِمة.
Ibrturkia@gmail.com