دخلتُ عبر الباب الزجاجي الفندق المهيب.. الكراسي الملونة.. النوافير الصغيرة.. الموسيقى الهادئة، والممرات المعبدة بالسجاد الأحمر.. وصلت إلى منصة الاستقبال المصنوعة من الخشب الفاخر..
ابتسم الموظف ابتسامة تريحني. قلت له: مساء الخير.. أريد غرفة تطل على البحر. قال: حسناً، عندي الغرفة 517.
انتهيت من إجراءات الحجز والدفع، وأخذت المفتاح البلاستيكي، وصعدتُ إلى غرفتي!!
دخلت إلى الغرفة.. السرير الكبير.. وسائد القطن المتزينة بأثواب الحرير.. المفرش الوثير.. ولحاف الدفء الناعم.. وستائر وردية كأنها أوتار قيثار توشك على الكلام..!!!
أنا أمام فرس أسرج للنعاس والنوم.. والمنامات الجميلة، ولكن كيف لي.. وأنا هنا وأنت هناك.. حتى حين أعود إلى مدينتنا.. وإن توسدت عتبة باب بيتك الجديد.. سأظل أنا هنا وأنت هناك!
فتحت حقيبتي.. لأجد أمي قد وضعت لي معطفاً شتوياً جديداً.. وبين ملابسي رغيف خبز وعلبة جُبْن.
آه.. يا أمي الحنون، طفلك الكبير هذه الليلة جائع، والصقيع في أعمق أعماقه..
ليتك تعلمين كم أنا متعب وضجر ومكلوم..!!!
توضأتُ للصلاة.. وصليتُ المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، وسألت الله لي الصبر.. ولحبيبتي السعادة!!!
خرجتُ إلى الشرفة المطلة على البحر.. وجلستُ على كرسي صغير.. أنظر إلى البحر.. كان المنظر رائعاً، الناس على حدود البحر.. يضحكون.. يتكلمون.. يتهامسون.. والأطفال على الأرصفة يلعبون، لا يخيفهم زئير البحر..!
أنا في هذه اللحظة أعشق البحر وأخافه.. عدتُ إلى داخل الغرفة.. فتحت «التلفزيون».. أريد أن أسمع صوتاً غير صوت صمتي.. أو قصة أعذب وأسعد من قصتي.. وربما هي مصادفة أن أجد أغنية «أحلام» التي تحبها «جوهرة «.. وغنتها لي بصوتها الهامس ذات مساء: والله أحتاجك أنا.. عن حياتي لا تغيب وإن حصل شي بيننا.. خلك بجنبي قريب .. سيدة قلبي.. أيتها العروسة الجميلة: الاحتياج بات محرماً.. والقرب خطيئة!!!
سيدتي.. يقولون إن «فرقة دار عنيزة للتراث الشعبي» تشارك في حفل زفافك.. تُرى ماذا يغنون بأوتارهم المستديرة؟ أتخيل أنهم يغنون «سامرية»:
حل الفراق ودوك مضعونهم جيب
وأنا من الفرقاء تراهش عظامي
ياعين هاتي من دموع وأنا أجيب
وأبشري بالسهر عقب المنامي
دقيت صدري دقتين على الجيب
وعضيت بالنابين بسرة بهامي
عليك يابو قذله لها دبابيب
عقب السهر دشيت بحر الظلام
ومضت ساعات الليل الطويل..
أنظر إلى ساعتي، الساعة الثالثة والنصف صباحاً.
أطل من الشرفة من جديد.. على البحر
كان الشاطئ خالياً.. من الناس
لبستُ معطفي.. وذهبتُ إلى البحر
جلستُ على صخرة سوداء كبيرة.. أتأمل البحر وأبحث عن مسمعه؛ لأني أريد أن أبوح له.. وأسأله في ليل رحيل قلب أسكنته قلبي .. أتحسس قسوة الصخر.. التي أفترشها .. أحقاً أنا على الشاطئ!!!؟
لم أشعر بألم الغرق يخنق أنفاسي!!؟
جوهرة.. يا سيدة قلبي.. وأليفة خاطري.. وسر فرحي وحزني أنت!!
أنا في زيارة للبحر.. وحدي آخر هذا الليل المؤلم .. ماذا أقول له..؟
هل أسأله عنك..؟ وأنت في هذه الليلة الحسناء العروس التي رمت المجداف وتسترخي في مرافئ الوصول..!!
سيدي البحر.. جئتك من بحيرة الرمل الشاحب.. كل عشبة فيها تعرفني وتعرف حبيبتي.. أودعنا في أعناق الغضا سلسالاً نقشت عليه حروف أسمائنا.. كم تسابقنا على رمال نقية طاهرة، وحفرنا بأصابعنا (العنصلة) حتى حفيف الريح عزف لنا وغنى معنا.. والقمر سامرنا وسامرناه. هناك ركضنا، وعندما تعبنا وقعنا تحت شجرة الغضا الكبيرة، وتساقطت أهدابها على وجوهنا كأنها تقول إنها الشاهد على حبنا!!
ترى.. هل تعرف يا بحر قصتنا..!!!
أخذت حجراً صغيراً ورميته في البحر.. كأني أريده أن يصحو ليصغي لي!!!
سيدي البحر..
ماذا تفعل عندما يُسرق اللؤلؤ منك..؟
وتُقتنص الطيور المغردة في سمائك..؟
وعندما تُختطف بسنارة اللصوص أسماكك الصغيرة الملونة!!
هبت الريح الباردة.. فزادت سرعة الموج حتى صفعتني بكفها المالح.. وتبللت ملابسي ووجهي.. وكأن البحر يقول لي إنه لا يعرفني!! قمت من على الصخرة.. ورجعت خطوات إلى الخلف.. وقلت أيها البحر.. رغم جبروتك وضعفي.. أنت لا تشبهني لأنك بلا قلب!!!
وداعاً.. أيها البحر الكبير
ليتك تعلم أن في أعماق زائر الليل.. قطرة من نهر يجري هناك لغيري.. ماء وزهر وضفاف.. لكن القطرة منه تبقى معي كنزف جرح ألفته!!
عدت إلى غرفتي بالفندق.. والكآبة تملأ نفسي، وعند دخولي كان الصمت يضج بالمكان الفاخر، لحظتها سمعت نغمات رسائل متتابعة من جوالي المهمل على سرير سهدي. يا إلهي، الساعة حوالي الخامسة صباحاً، مَنْ سيرسل لي في مثل هذا الوقت؟!
سرت ببطء.. أخذت الجوال لأجد رسائل وسائط من «جوهرة».. قلت ماذا تريد أن تقول العروس لي في ليلتها!!!
ترى ستحدثني عن فرحها أم عن ألم فجيعتي وأنين قلبي.. الذي عبر مع حفيف الريح من ضفائر نخيل عنيزة وبساتينها إلى شاطئ جدة وبحرها ما بين الخوف والفرح..؟ وما بين الواقع الأكبر من كل خيال كان لا بد لي أن أقرأ رسائل أعز الناس..
الرسالة الأولى
((عبدالرحمن
يا أعز الناس.. أعلم أنك لم تنم بعد.. لأنك تتألم كثيراً، الفجيعة كانت أقوى مني ومنك.. أنا أشفق على نفسي وعليك.. ربما تكون في هذه الليلة أفضل حالاً مني.. لأنك تستطيع أن تبكي في وحدتك.. أما وأنا وحيدة وسط كل الناس لا أقوى على ذلك
تأكد أنني أتمنى في هذه اللحظة أن أكون بجانبك .. أمسح دمعتك.. أخفف عنك.. أهدهد جراحك..
أعزيك بجوهرة عمرك.
تأكد أنني لن أنساك.. وأنينك أنيني بل أنني في ليلة العمر أتذكر كل كلمة كتبتها عني وعنك. لم يستطع الثوب الثلجي أن يطفئ لهيب الفقد والفراق حتى نقوش يدي.. والأساور والحلي في عنقي ومعصمي وخطوط الكحل المرسومة في أهداب عينيّ لم تكن هذه الليلة.. ولن تكون أبداً.. أجمل من خيال رسمته لي وأودعته ناظري،
قوارير العطر في غرفتي الواسعة لن تنسيني شذى قارورة حبرك حين يستبد بنا الحنين نتوسد ساعد الحنان ونسلو!!!
أعز الناس..
هذه الرسائل ليست خيانة لأحد بل هي تفسير وحل للغز صعب «التضحية تقتل الحب أحياناً»
الآن أجابت الأيام عنه.. خنجر التضحية انغرس في قلوبنا.. ليحيا مع نزفنا كل جرح وجرح)).
جوهرة (عنيزة)
الرسالة الثانية:
((عبدالرحمن
علمت أنك سافرت من عنيزة عندما أظلم ليلها قبل الظلام.. سافرت إلى جدة.. ومن المؤكد أنك ذهبت إلى البحر.. ترى هل سألته عني..!؟
إن كان البحر صادقاً ومنصفاً.. من المؤكد سيقول لك إن عاصفة قوية انتزعت المجداف مني ومزقت شراع قاربي وأنني في هذه الليلة أزف في هودج يسبح في عرض البحر.. أبحر إلى المجهول حين تحضر كل الوجوه وتغيب أنت!!!
يا قرة عيني.. أخاف عليك من الشتاء.. فالريح الموجعة تعصف بك
في هذه اللحظة أتخلى عن أنانيتي فيك.. لأقول لعل الله يهبك يداً حانية تمسح دمعتك.. وتلامس جبينك، وتحضن قلبك حتى يسكر حزنك وتفيق على فرح جديد، عذراً قد لا أستطيع التواصل معك فقد تتلمذ عقلي على نقاء ووفاء قلبك
لقد أحببتك وأحببتني الحب العفيف.. وحقيقة الحب لا تلغيها مآسيه
قسماً بربي أني أودعتك في عرين ذاكرة وقلب))
جوهرة عنيزة
الرسالة الثالثة
((عبدالرحمن
أعلم أنك لا تحب أن يحدثك أحد عن تفاصيل حفل الزواج.. لأن الأضواء لن تزيل عتمة حزنك، ولا الغناء والرقص سيبدد صمت فجيعتك.. حتى كلماتي. آخر هذا الليل البارد لن يعيد لك شمساً أشرقت طويلاً في أعمق أعماقك وغربت!!
لكن.. يا حبيبي أنت.. بعض المشاهد تنتهي وتبقى الحيرة بعدها.. وهذا ما حدث معي الليلة عندما لعبت دوراً صادقاً لم أفهم معناه..!!!
تأمل.. حبيبي:
كنت جالسة في «الكوشة» على مسرح القاعة لم أتحرك من مكاني.. كالدمية البيضاء صامته لا أتحدث مع أحد.. غير حديثي مع ذاتي..
كل النساء يعتلين المسرح لتهنئتي.. يقبلن جليد فرحي وسعير حزني!
كل أخواتي وقريباتي.. كل صديقاتي وزميلاتي حتى العجائز رغم صعوبة وصولهن إليّ صعدن المسرح لتهنئتي
نظرت أمامي إلى الحضور.. فرأيت أُمّك الغالية في آخر الصفوف.. فقمت مسرعة.. ونزلت من على المسرح واتجهت إلى أمك.. احتضنتها وقبلت يدها وجبينها بصمت.. ثم عدت لأحضنها من جديد.. ورغماً عني همست في أذنها «أمي.. عبدالرحمن أمانة لديك.. وبلغيه تحيتي وسلامي»
ثم أخذتها من يدها.. لأضعها بالصف الأول، نظرت إلى أمك.. نظرة حنان ثم حضنتني من جديد وهمست في أذني.. أنت الجوهرة اسماً ومعنى، كوني كذلك ابنتي في يومك الجديد.. الله يسعدك..!!!
أخرجت أمك منديلاً مطرزاً.. مسحت دمعتي.. وابتسمت ووضعت المنديل بيدي.. وقالت عودي يا عروستنا إلى كرسيك الجديد..!!!
عبدالرحمن
الجميع كان مندهشاً.. من مشهدي (أنا وأمك).. ولست أدري هل هذا المشهد.. يسعدك أم يسوؤك..!!!
أنا لا أدري لم فعلت ذلك، لكنني كنت فخورة بلحظة انتصار قلبي على عقلي.. لأقول إن الغائب حضر)).
جوهرة (عنيزة)
انتهيتُ من قراءة رسائل «جوهرة»
جلستُ على الكرسي الكبير.. أستعيد كل كلمة ومعنى!
أُذِّن لصلاة الفجر.. توضأت وصليت.. بعد ذلك هاتفت «المطعم» وطلبت «كأس شاي».. وعندما أحضروه.. شربت الشاي، وقبلت رغيف أمي، وأكلت منه!
حملت حقيبة سفري الصغيرة ونزلت إلى الاستقبال لإنهاء إجراءات المغادرة.. وشكرتهم وودعتهم.
خرجت من باب الفندق.. وعبرت الشارع إلى الشاطئ، ووقفت أتأمل إشراق الشمس على البحر.. وكأن الشمس وهي ترمي بضفائرها على صدر البحر أنثى تريد بدلالها أن توقظ البحر وأسماكه.. كان المنظر رائعاً، لكني شعرت بأن البحر يخفي حبيبتي بعيداً.. كي لا أراها!!!
أخرجت من جيب معطفي ورقة بيضاء.. ثم كتبت رسالة أعز الناس.. جوهرة.. اليوم انطفأت الشموع.. وتحطم المجداف.. العاصفة التي تهب كانت أقوى من شمس الحلم.. الفراق الذي لا تنتهي لوعته يستعبد القلب حتى يدمن الحرمان..
سيدتي..
اليوم جاء نهارك فتعلمي أن تألفي صفا إشراق سمائك دون غمامة ذاكرة ممطرة مطراً استوائياً .. وداعاً سيدتي.. كوني من أجلي أنا بخير..!!!
صباحية مباركة
«عبدالرحمن» - جدة
أخذت الورقة.. وبرفق أودعتها البحر.. كأني وضعت فيه قطعة سكر.. عدت إلى الشارع من جديد.. استوقفت «سيارة أجرة، وقلت له: إلى المطار.. كان السائق من العمالة الآسيوية.. حاول أن يكون لطيفاً معي.. قال: معي (كاسيت أغنية عربية)، وقام بفتح المسجل، وإذا هي أم كلثوم تغني (فات الميعاد وبقينا بعاد..). السائق كان يبتسم لغناء لم يفهم معانيه، أما أنا فبكل كبرياء حزني عشت الصمت الذليل.
وصلت إلى المطار.. وسافرت إلى عنيزة سفراً ليس إلى المجهول الصعب، ولكن إلى المعلوم الأصعب!!؟
- عنيزة
ayamcan@hotmail.com