كم كان طول المسافة التي فصلت فيما بيني وبينك عندما استمعنا معًا على لسان الدكتور جاك مقولة بيرون الشهيرة: (قد تنمو الصداقة لتصبح حباً، ولكن الحب لا يتراجع ليصبح صداقة) ؟
ثم هل كانت مسافة عرضية أم طولية ؟ أكانت من نوع جدليّ ؟ أم مجرد معادلة تُحسم بنتيجة نهايةً ؟!
ثم ما هو المقياس الذي عمدنا إلى الاستعانة به ؟
كلاسيكي ؟ أم عصري ؟
ثم ما نوع الأذن التي سمعنا بها آنذاك؟
أذنًا هندية خارقة ؟ أم أوربية ماجنة ؟ أم عربية خجولة ؟
كان عمر حبك لحظتها لا يتجاوز المواعيد العابرة التي تلتقيني بها في الممرات التي تضيق بغيرنا من العشّاق، لذا لم تكن لديك القدرة لاستيعاب مقولة بيرون، وبدوري، كنت في عقلٍ لم أدرّبه بعد على استعارة وتحليل أفكار الآخرين، واثنانِ بحالتنا أمام رجلٍ كهذا يقول مقالةً كهذه، يتساءلان عن أي موقف يمكن اتخاذه !
التحديق... ظننت هذا أفضل ما يمكننا فعله حينما فعلناه فعلاً !
بعدما ضحكنا، بكينا، افترقنا، و توزّعنا في أنحاء الدنيا، و تشاطرنا تجارب كبار عشّاق الشرق والغرب، والتقينا مجددًّا، أطلعتني على عدّة حقائق ! من أهمها قدرتك على الحكم على الأشخاص أيًّا كانوا و أينما وصلوا !
أتيتني في طرف اللقاء بإحدى حكم دوبرييه والتي نعتها بأصدق ما كتب والتي لا أفهم حتى هذه اللحظة لا أفهم سر إطلاقك هذا الحكم والذي كان نابعًا عن قناعة ذاتية، ردّدتَ بملأ فمك وعينيك: (الرجال يموتون من الحب، والنساء يحيين به) (يعيش دوبرييه ! كتب ما أردت قوله للعالم ! حبك يا امرأة ! إنه يقتل ! يقتل الرجال !!)
قلتُ: (ليس بالضرورة! أنا مثلاً لا أحيا بحبك! إنه يخنقني!)
حينما جبتُ قارات العالم جوبًا بواسطة الكتب والأفلام والسينما والموسيقى، و حينما عاينتُ بنفسي صور الحب في كل بلد وزِقاق وكيف أنه «شتّان» ما بين حب و حب، وقلب و قلب، رجلٍ ورجل، أنثى وأنثى، أتيتك بخُلاصة الأمثال البولونية: (الحب يدخل الرجل عبر العينين، ويدخل المرأة عبر الأذنين !)
(لن تموت! فقط ارمقني! سأنفذ إليك وأشعّ الحياة ما بين ثنايا مفاصلك!) بفرحٍ قلت.
استغرقت وقتًا حتى تقول: (هذا يعني أن أستمّر في رمق أنوثتك بينما تنحازين أنتِ لصوت رجولتي ؟!)
(ليس بالضبط ! أخبرني، كيف فهمت المَثل ؟!)
سألتني:(هل هو قريب منك إلى هذه الدرجة ؟!)
(من تقصد ؟) أجبتك.
(المثل البولوني!)
(لحدٍ ما، نعم !)
بامتعاضٍ قلتَ:(يؤسفني معرفة هذا!)
ثم استدركتَ غاضباً:(وما شأن البولونيين بالحب؟)
(مالذي أزعجك في مثلهم؟!)
(أنني ولأني رجل ينبغي أن أتحدث حتى تحبينني!)
(لكني لا أحب بأذني فقط !) طمأنتك.
(وأنا لا أحب بعيني فقط !) أردفتَ عبارتي.
خلف ذاك الشاطئ وتحت تأثير النسيم المُضطرب، لا أدري لمَ انتقلتَ إلى ماض غابر جمعنا حينما كنّا طلبة ندرس معاً في إحدى جامعات مدينة العشّاق العريقة، (أتتذكرين المقولة التي كان يرددها الدكتور جاك ؟!)
بعد غضونٍ من التنقيب في الذاكرة: (مقولة بيرون ؟ تقصد ؟)
مُبتسمًا أشرتَ بالإيجاب! أدهشتني!
لمََ تذكرتها في هذا الوقت تحديدًا؟ أيعني هذا أنك توصلت لاستنتاج شخصي إزاءها؟ أم أن الأجواء تستدرجك من حيث لا تشعر!
لا أعرف بأي نوع من الشراهة تحدثتُ حينما تساءلتُ بصوتٍ مسموع: (يقول بيرون أيضاً « مأساة الحب تتلخص في أن الرجل يريد أن يكون أول من يدخل قلب المرأة، و المرأة تريد أن تكون آخر من يدخل قلب الرجل « ما رأيك بهذه إذاً ؟)
ناولتني ما يدور في خلدك دون تحضير و فوضوية عباراتك دليل جليّ على هذا، بالمقابل، كنتَ واثقًا مما تقول، ونبرة صوتك دليل قطعي يأتي من المحاني:(على حسب !)
(كوني رجل لا أريد أن أكون أول من يدخل قلبك ! هل تعلمين لماذا ؟! لأن الضيافات الأولى دائمًا ما تكون محددة بزمن ! محدودة الخبرة ! ضيّقة الأبعاد، أريد أن ينزل الكثيرون قبلي قلبكِ ؛ حتى تُعايني بنفسك أكبر عدد من النماذج الرجالية التي تتفانى في إعطاء صورة حسنة لها، أريدكِ -دون أن أتدخل- وبمحض إرادتك أن تنفيهم ! أصبو إلى أن أحلّ دون استعداد مُسبق، دون أن أتكلف في تزيين نفسي! أن أكون الأخير و ألبثَ حتى الأبد، هل تفهمين ؟!)
مشدوهة العينين عقّبتُ:(هُراء !)
بهدوء: (أحينما يتحدث قلبي، يكون كلامه هُراءًا!)
(لم أسمع في حياتي حبيبًا يأذن لحبيبته في حب غيره!)
(هل تُقنعيني أنكِ لم تُحّبي قبلي؟!)
(هل تُمهّد إلى أنه من الممكن أن تُحب بعدي؟!)
(ألم تسمعي عن أحبّة خانوا بعضهم؟)
(بلى ! ولكن ما شأنهم بحديثنا ؟!)
(هذه مُرتبطة بتلك! الخيانة لا بد تحدث في المشاريع العاطفية!)
(الموقع الإعرابي و الوجداني ل»لابد» في جُملتك كان خاطئًا خطأً سافلاً ؛ هل تزعم معرفتك بكافة مشاريع البشر العاطفية؟ ثم أن الخيانة ليست خيانة طالما حدثت قبل نشوب العلاقة، الخيانة هي ما يحدث بعد توطّد وتغلغل العلاقة، أتفهمني؟)
(و بمَ تسمينها إذاً إن حدثت قبلاً ؟!)
(مُراهقة، زلّة شعور، انقياد، اندفاع، ما شئت، المهم ألاّ تدعوها بالخيانة !)
(لكن بالفعل هناك خيانات تحدث، هل تُنكرين ؟!)
(لا أنكر، وكل خيانة تعتمد على نوع الضمير الذين يتمتع به صاحبه !)
(لذا أسهبتُ هنا ! لا أصدّق أن امرأة نبيهة لا تكشف حبيبها حينما يقع في حب غيرها ! لا أصدّق أن رجلاً نبيهاً لا يكشف حبيبته حينما تقع في حب غيره ! إن كان لا بد من الخيانة، فلتخوني ! على أن تعلمي أن لديّ ضميرًا يجسّ النبض أولاً بأول)
(لا أظن أن التجسس و التكهّن من وظائف الضمير، خُلقَ الضمير حتى يُؤنبنا، يُنبهّنا، حتى يُعيدنا لصوابنا، لا أن يُوقعنا بخطايا الآخرين، لكن ؟ ما شأن النباهة في الحب و الخيانة ؟)
(هل تستطيعين الحب دون نباهة؟!)
(أحيانا كثيرة نعم! لكن يصعب أن أخون دون نباهة !مثلاً:أحتاج إلى أن أتدثّر بملامح ليست ملامحي طيلة اليوم حتى أسترَ خطيئتي!)
قلتَ بمكر:(ثم قد بدأتِ تسترسلين في الخيانة ؟! يبدو وأنك مُتمرّسة جيّدة ؟!)
و حينما وقعت بالفخّ... بدأتُ أبكي... وأبكي... وأبكي...
ضقتُ ذرعًا بنفسي وبنفسك وبمصيرنا، تعاطفتَ معي وبعثتَ لي رسالة مبطّنة، كتبتَ على صدرها ألم تسمعي ما قاله سانت بوف ؟! « الحب هو الدموع، أن تبكي يعني أنك تحب! «
لا لم أسمع ! أنا جربت !
- بريدة