قد لا يصح للناقد تناول كتاب مثل هذا بالاستناد إلى بحث في المنهج، إلا إذا كان السؤال ذاته منهجًا، من حيث هو إلحاح في الشك في طريق البحث عن إجابات على طائفة لا تنتهي من علامات الاستفهام المتجمهرة حول لازمة «مأزق».
والمأزق هنا سؤال وجودي يتناسل وفق سلسلة أكثر سرعة من السلسلة الهندسية، ففي عصر فاق إنتاجه في آخر مئة سنة ما أنتجته البشرية كلّها في تاريخها كلّه يمكن أن يجد كل فرد منّا له مأزقًا كل يوم، هذا إن لم تلاحقه المآزق، وهي كذلك!
ينتقي المؤلف إبراهيم بن عبدالرحمن التركي أربعة وخمسين مأزقًا بين مقدمة وخاتمة، أتت كلّها في ثلاثمئة وأربع وسبعين صفحة، ولو أراد المؤلف لضاعف عدد هذا المآزق، أو اشتق من كل مأزق كبير مآزق صغيرة، وعلينا هنا أن نقترح عليه جزئيتين لا نرى إلا أنهما ستؤديان إلى مأزق، ففي كثير من العناوين التي اختارها نرى جدارة في استبدال كلمة مأزق ب»سؤال»، بحيث يستحيل عنوان الكتاب إلى «فواصل في أسئلة الثقافة العربية»!
لكن، لا، فكلمة «فواصل» ذاتها تعوض عن معنى السؤال؛ أما الجزئية الثانية فتأتي في المضمون، حيث نذهب إلى أن المأزق هو ضرورة وجودية وثقافية، فالإنسان، عمومًا، والمثقف خصوصًا، يحتاج إلى مأزقه الخاص الباعث على تعميق جراح الأسئلة، فلا منجاة للمثقف كي يعالج «مأزق الزمن» من مكابدة في بحثه عن إجابات مستحيلة لأسئلة تبدو الإجابة عليها بديهية، فالركون إلى البدهيات صفة العامة ممن حباهم الله بقلة التطلع، والقناعة بالمرئيات، والتمتع باجترار أقوال وأفعال الأولين، أما من ابتلاه الله بالعقل والهمّة فهو الذاهب في شقاء العلم والسؤال والتجريب، وعندها ستجر قاطرة عمره أعمارًا دون أن ينتهي البحث، فمن اختاره قدره ليكون علمًا يُقيض له اجتراح أسئلة يحملها خَلَفه في العلم وفي السؤال، حتى يذهب قرناؤه في الخَلْق بعلمه إلى الكونية التي أرادها الخالق تعبيرًا عن صورته في أكرم خلقه على الأرض.
ومن هنا، يستحق الكتاب كثيرًا من المديح، فالجهد واضح في تنوع اهتمامات الأستاذ التركي، وفي القلق الذي يحثّه على جعل أسئلة الحياة والعلم والأدب والفلسفة «مآزق». ولأنه شاب في عدد السنين، فإننا لا نعجب من صاحب القلق إذا نبَّه «أقرباءه في الثقافة» إلى ما يحسن بهم العمل عليه كي يعطوا الأبناء والأحفاد خريطة وخطة عمل تقودهم إلى مستقبل أكثر نصوعًا، فليس قدرًا أن تبقى الأجيال القادمة تدور في فلك السؤال الأولي الذي أرهق الآباء والأجداد.
ومما لم يفطن له الكاتب التركي أن يضع بابًا ل»مأزق الزمن»، لكنه بثَّ في حنايا الكتاب مثل هذا، مما ينتمي إلى التلميح، أو البلاغة الشعرية التي تؤشر إلى المعنى دون أن تجسِّده كامل الأعضاء والهيئة، فهو يقول في باب «مأزق الانفعال»، في مقام الحديث عن المفكر اللبناني مهدي عامل (حسن حمدان).. «لم يكن مهدي إسلامويًا، بل هو ماركسي حتى العظم، وقد أوضح، بكل جلاء، أن الحديث عن أزمة الحضارة هو بحث في الوهم، والواهمون فقط هم من يعودون إلى الماضي للتفتيش في سلبيات البنية الحضارية..».
أما في «مأزق الوهم»، فيقول «.. وفقًا لحالة اللا ثقافية، فالسطح مليء بالأسماء والعناوين، والعمق يكاد يكون خاليًا من النتاج المؤثر القادر على خلق غدٍ واعد بنقل الأمة من الوهاد إلى النجاد..». ويمكننا أن نتفق مع الكاتب هنا، مع بعض الإفاضة، في كون الإبداع إفرازًا عسيرًا، فمن بين حملة الشهادات العليا في عصرنا هذا لا نتحصل سوى على طبيب واحد مبدع بين كل عشرة، أو مئة، إذا تلبسنا التفاؤل، كذلك الأمر في الأدب، أو السياسة، وغير ذلك من ميادين الحياة والعلم والثقافة، دون أن يعني ذلك عدم اعترافنا بأن «التغيرات الكمية تؤدي إلى تغيرات نوعية»، فلكي نحصل على ألف مبدع يجب أن ندعم التعليم والبحث والتجريب للحصول على جيش من العلماء، في سلسلة لا تتوقف.
وفي «مأزق التصنيف»، يرى التركي أن التقهقر الذي يعيشه العرب ما بعد القرن الثاني الهجري جعل نقاد الأدب عندهم يُخضعون الشعر إلى مسطرة الوعاظ «.. لم يُولد بيننا من قرأوا الشعر بعين الوعظ، أو بعين المصلحة التي قادت النظم والنظامين للواجهة، وأوجدت للإبداع تصنيفات مؤدلجة، وأدخلت «العامة»، من غير المتخصصين، في دائرة ضيقة ترى الشعر درسًا في الأخلاق، والشعراء مجموعة من الوعاظ والوُصاف والزهاد».
ويضيف في «مأزق الأسئلة»،.. «يكفي أن نتفق على الثوابت الشرعية المجمع عليها بنصوص قطعية ليصبح الدرب، بعدها، ممتدًا بمسافات للحركة، ومساحات للاقتناع أو الامتناع، أما شحن الناس ضد منطق مخالف، أو جمعهم على رأي فقهي، أو عادة متوارثة، فقد أوقعنا في كثير من العثار».
ومن ذلك ما ينتمي إلى «مأزق الثنائيات»، حيث أنت مخير بين أمرين اثنين لا ثالث لهما، إما أن تتفق معي، أو أنت نظيري «الآخر» في أشد أحوال التسامح حضورًا. ويضرب التركي مثلاً حول ذلك في قول شهير للشاعر العراقي مظفر النواب «لم يتوهم مظفر، الذي أحببناه لمبدئية لم تتراجع أمام المد الطائفي البغيض الذي يسود بلاد الرافدين، حين قال: «إن الواحد منَّا يحمل في الداخل ضدَّه». سوى أننا نرى مثل هذا القول للنواب يحمل إيجابياته عند المبدع، فالجدل بين الفكرة ونقيضها هو مولِّد للإبداع قبل أن يوصِّف الألماني «فيورباخ» هذه الفكرة التي تُعدُّ اكتشافًا أكثر منها اختراعًا، أو إبداعًا، وقبل أن يستخدمها ماركس في المادية الجدلية، في محاولة لاكتشاف القوانين التي تحكم المجتمع الرأسمالي.
وإذًا، فالكاتب حين لا يعلن صراحة ما يريد، يؤشر، ومن هنا تبدو مهمة الكتاب تحريضية، فالقارئ الأقل حداثة وخبرة وثقافة يجد فيها معينًا على أفكار أولية تختصر عليه الزمن في طريق إنضاج فكرة أعلى، فلماذا عليه أن يعيد اختراع العجلة التي تسير على الأرض، بينما يمكنه أن يمهد الأرض لتسير عليها العجلة بشكل أسرع، ولماذا يجب أن نعيد استخدام التسمية نفسها لحوادث مختلفة؛ وهنا يرى التركي في طريقته التي تخلع العمامة، وتخفي الدرجات العلمية، أن للأجيال المختلفة طرائق مختلفة في توصيف مفاصل التاريخ «سيذكرون أن الأمة فرطت حين أذنت للأكلة أن تتداعى على قصعتها، وسيعرفون أن نكبة العراق ليست أقل من نكبة فلسطين».
وإذا أذن الأستاذ التركي، فإن «نكبة العراق» أشد وأكبر وأدهى مما حصل في فلسطين، سوى أن «التراجيديا» التي رافقت اغتصاب فلسطين كانت أكثر دراماتيكية، من حيث إن آباء السياسات العربية كانوا يعدون بالنصر منذ «النكبة»، فإذا ب»النكسة» تقدم لنا الهزيمة صريحة في ستة أيام، أما ما حدث في العراق فقد افتقد لكل هذه المقدمات التراجيدية، ومع ذلك فإن احتلال بلد مستقل وعزيز وقوي وواعد مثل العراق قد أعاد العرب وقضيتهم المركزية إلى ما قبل احتلال فلسطين و»نكبتها».
وهكذا تجري مقولات الكاتب التركي كاشفة طائفة من المآزق التي تتسع لها عشرة آلاف صفحة، إن لم يكن أكثر، ومنها «مأزق الاكتئاب»، إذ يقول «.. نود أن نجمع بين مبدئية الرافعي وتنويرية طه حسين، لكنهم أقنعونا أن محبة واحد تعني كره الآخر، وأن الجمع بينهما محكوم بنظرية أبي الطيب حول جمع الماء والنار أو الجد والفهم..».
الكتاب لا ينتهي إلا في صفحاته التي بين دفتيه، ولو شاء الكاتب لأعاد ترتيبه بطرق لا تُحصى، ولأضاف إليه في الأبواب والشرح والاستشهاد أضعاف ما صنَّف، وحسبنا وحسب الكاتب التركي أن نعيد معه استشهادًا من «شرح ابن عقيل»، فتحت باب «مأزق التخصص»، يورد البيت التالي:
من يكُ ذا بتٍّ فهذا بتِّي
مقيظٌ مصيِّفٌ مشتِّي
نذكر أن الكتاب صدر في بيروت عام 2011م، عن دار بيسان للنشر والتوزيع والإعلام.
سكرتير تحرير مجلة «فكر»