حاوره - عامر مطر
ليس من الصعب أن يرسم صيفاً مختلفاً، لكنه يجزم في ديوان كامل أنه: «من الصعب أن أبتكر صيفاً»، ينسج قصيدة بسيطة، وقصيرة، تقرأ خلال دقائق، تبدو كأنها كُتبت في مدّة قصيرة، لكنها لا تغادر البال أبداً. يكتبها دوماً تشكيلي سابق، وشاعر مهلوس، يعتبر أن سوريا وحدها بلده، على رغم أن اسمه منذر المصري، أو منذريوس مصريام، بحسب ادعائه ذات مرة.
بدأت مجموعاته الشعرية بالصدور، منذ: «بشر وتواريخ وأمكنة»، و»الشاي ليس بطيئاً»، إضافة إلى العديد من المجموعات التي صدر آخرها: «دعوة خاصة للجميع».
تردد مؤخراً أن كتاباً جديداً سيصدر له قريباً، سيكون إشكالياً، لأنه يقدم أكثر من ثمانين شاعراً سورياً اختارهم ليقدمهم في أنطولوجيا مختلفة للشعر السوري.
سمّ الكتاب (منذر مصري وشركاؤه)، لكن ما المعيار الشعري الذي استخدمه المصري في تحديد شركائه المزعومين؟
- إنهم من وردت أسماؤهم في الكتاب، هذا أدق جواب أستطيع أن أقدمه لك مبدئياً، وهم عددياً ما يقارب من الثمانين شاعراً سورياً، ما عدا ثلاثة أو أربعة منهم، أحدهم ناظم السيد فقد كنت لأيام متأكداً من كونه شاباً سورياً لم يحصل على الشهادة الثانوية، يحيا في لبنان هرباً من الخدمة العسكرية!؟؟.. منهم شركائي لدرجة أنهم يشكلون معي عصابة، نتناوب على قيادتها بالقرعة أو التطوع أثناء قيامنا بالغارات على القطارات وعربات السفر.. ومنهم من لا أعرفهم إلاّ بالاسم، والشعر طبعاً!؟
ولأن قصائده مكتوبة بواسطة جمل وأحاسيس وأفكار الآخرين، لذا يسهل علي مديحه إلى أبعد حد! لأجل توضيح هذا وغيره، كتبت له مقدمة: (دبور يجني رحيق الأزهار ليصنع عسلاً) وذلك بدل أن أقول (مصاص دماء، وطواط، يغرز أنيابه في رقاب الشعراء ويمتصّ دماءهم) وقليلاً من أرواحهم. طبعاً الفامبير يفضل أن يبقي ضحاياه أحياء لإنتاج غذائه، اعتزازي به يتأتى من أنه يتيح الفرصة، أكثر من أي أنطلوجيات سايقة أعدت عن الشعر السوري، لا يدعي هو بأنه يحاول مجاراتها، لرؤية الإنجاز الشعري السوري بأعمق وأروع صوره!؟ لا تتصور مدى غبطتي وأنا أمد يدي وأقطف الثمار المحرمة من البستان المطوق، ككل شيء سوري، لهذا الشعر.. ثماره الناضجة والفجة، المعتمة والمشعة، التي تتدلى من أغصان أشجارها، أم الساقطة أرضاً بعد طول انتظارها أن يقطفها عابر.. إلا أن عابرين كثيرين مروا ولم يفعلوا شيئاً سوى الدوس عليها بأقدامهم.
تعتبر أن الماغوط أب شعري لك، رغم عدم تأثرك شعرياً به. كما أثار وصفك لشعراء سورية بأنهم خارجون جميعاً من عباءة الماغوط انتقادات واسعة، والكثير من الإشكاليات... ألا ترى أن هذا الكلام ينطوي على تجديف نوعاً ما؟
- ذكرت مرة، أن الماغوط كان يزورنا في البيت، وأنه كان يستغل انشغال آبائي الحقيقيين، توفيق الصايغ، وحبرا إبراهيم جبرا، وشوقي أبي شقرا، وعمي أنسي الحاج، في النقاش وقراءة الشعر، فيتسلل دون أن ينتبه له أحد، إلى المطبخ حيث تكون هناك أمي مشغولة بإعداد أطباق الطعام. بالتأكيد تأثرت به شعرياً، كيف لي أن لا أفعل، لا حد للإغواءات الماغوطية، وفي الوقت نفسه كيف لي أن أتأثر بأي شيء آخر هو عليه؟. كونه يكتب قصيدة نثر شيء، وهو كشاعر وإنسان، شيء آخر.. منذ البداية كان تصميمي أن أكون شاعراً من نوع مختلف كلياً.
جيد أن يثير وصفي لشعراء سورية بأنهم خارجون جميعاً من عباءة الماغوط انتقادات واسعة، جيد أي شيء يثير أي شيء عندنا. ولكني لا أذكر أني ذكرت كلمة (عباءة)!؟ أذكر أني استخدمت كلمة (معطف)، يوجد فرق، فأنا لا أحيا بين أناس يرتدون العباءات، لذا لا أستخدم هذا النوع من المفردات، ولو على الصعيد الرمزي. ثم الماغوط نفسه لا يرتدي عباءة.. أعرفه بالترانشكوت... أيضاً ينطوي كلامي على تجديف من أي نوع. علماً بأني لست وحدي من يذهب إلى ما ذهبت إليه وربما يبتعد أكثر بكثير.
قلت في حوار سابق «المنجز الإبداعي السوري برمته يعلن عن نفسه بدون التباس كمرثية»، في الشعر، هل يستحق الجيل الشاب الرثاء؟
- لا مفر لأي منتج أن يكون حصيلة ما يُنتج منه، ما يؤلفه. المنجز الإبداعي يعلن عن نفسه كمرثية لحالنا. هذه ليس هجاء له، بل ربما هو أقرب للمديح، لأني أولاً أعتبره إنجازاً، وثانياً ألحق به صفة الإبداعي، ولأني أيضاً أقر بأنه يعكس بصدق ما آل إليه حالنا اليوم. أذن، في النهاية، كون المنجز الإبداعي السوري برمته يعلن عن نفسه بدون التباس كمرثية، حقيقة تستطيع استخلاصها من معاينة المنتج نفسه.
أما سؤالك هل يستحق جيل الشباب الرثاء؟ بادئ ذي بدء علي أن أختار الزاوية التي أنظر منها إلى هذا الأمر، فمن ناحية الظرف الموضوعي المحيط به والمفروض عليه نعم يستحق.. أقصد حال الشعر في بلدنا، كمهنة، كطريقة عيش، كتسلية..، بالمقارنة مع أي مهنة أو طريقة عيش أخرى، خذ الرسم، أو الرواية، مثلاً. ليس في وضع الشعراء ما يحسدون عليه من أية زاوية نظرت. نعم جيل الشباب، جيل التسعينات وما بعده يستحق الرثاء البليغ، رغم الإحساس غير المريح الذي أشعر به تجاه قول كهذا، سمعت الكثير من الشعراء الشباب أنفسهم يرددونه أمامي: (نيالكم، في أيامكم كانوا الناس يهتمون بالشعر، كان يوجد من ينتبه ويهتم، أمّا اليوم..) غير أن هناك ما يدفعني للتعميم بأن كل أجيال الشعر السوري منذ السبعينات للحاضر القريب تخضع لذات الشرط..
قلت إحساس غير مريح.. لأني أشعر بتناقض في قولك جيل الشعراء الشباب ويستحق الرثاء.. بالنسبة لي، ليس في الشباب سوى ما يدعو للحياة والحب والشعر.. والأمل، طبعاً مضطر لاستخدام هذه الكلمة التي قد يسخر منها الكثيرون.. ولكن ربما يأتيني هذا الإحساس فقط لأني أتكلم عن جيل الشباب وأنا لست منهم.. على كل لم يكن سؤالاً سيئاً لهذه الدرجة.
تعذيب القصيدة
النزوع نحو قصيدة التفاصيل اليومية جعل من قصيدة النثر تتجه نحو الثرثرة والفراغ، في حين أن أصوات نقدية الآن تطالب بمنح القصيدة بعداً معرفياً أوسع، بمعنى ترسيخ قصيدة حداثية مثقفة إلى أي مدى تتفق مع هذه الآراء؟
- نعم جعل منها كذلك، ونعم اتفق مع هذه الآراء.. رغم عدم موافقتي على فكرة المطالبة بحد ذاتها.. أظنه معروفاً عني تحصيلي العلمي، وولعي بالرسم والسينما والموسيقى وغير ذلك، لكن ذلك لا يجعلني شاعراً أفضل مني اليوم عن الشاعر الذي كنته منذ عشرين سنة.. أقصد المزيد من المعارف والخبرات ليس بالضرورة يؤدي لكتابة قصيدة أفضل.. هذا شيء خبرته.. إلا أني قلت، نعم أوافق أن القصيدة نتاج ثقافي ومعرفي إلى حد بعيد، إلا أنها أولاً نتاج حسي وشعري قبل أي شيء. أما عن تفاصيل الحياة اليومية فهو شيء بالنسبة لي لا بد منه في القصيدة، وإلا بقي مجال الشعر الأفكار والذهنيات. شاعر شبه ميثولوجي كنوري الجراح تشغله تفاصيل حياته جنباً بجنب تأملاته وخواطره.. وكذلك تفعل هالا محمد الذي يتصف شعرها بتقليب الفكرة ورؤيتها من عدة وجوهها، وكذلك حازم العظمة ومحمد دريوس، أما أختي مرام وزياد عبد الله وعلي حميشة ونجيب عوض وحسام جيفي فهم شعراء تفاصيل حياتية حقيقيون.
يقول بوعلي ياسين لك: «لم أكن أتوقع في حياتي أن يكون هناك شاعر يعذب قصائده وتعذبه قصائده مثلك»، متى تنتهي من كتابة القصيدة؟
- أعمل كثيراً بقصيدتي، قصيدة بسيطة تبدو وكأنها كتبت بخمس دقائق.. أعمل بها سنوات، ظروف نشري لشعري، طبعي الهلوسي.. أوصلني لهذا المرض. وذلك مما أدى لإيماني بفكرة شديدة السوء، وهي أن القصيدة دائماً قابلة لأن تكتب بطريقة أفضل.. فلا أنتهي منها إلا عند شعوري بأنها الآن مكتوبة بأقرب طريقة للكمال، وبأن المزيد من العمل بها سيفسدها، وكثيراً ما أفسدت قصائد.. هذا الاقتراب ما أمكن لأفضل طريقة تكتب بها القصيدة هو ما أضمنه لقارئي غالباً.. لكني أيضاً أغير به وأبدل في عدد كبير منها كلما سنحت لي الفرصة.. على شرط أن أحافظ على الوفاء للزمن الذي كتبتها به.. أقصد أني أحاول إعادة كتابة ما لم أستقر عليه من قصائد، لتغدو بأفضل مستوى ممكن، ضمن ذات الشروط الإبداعية التي كتبتها بها سابقاً.
يحمل شعرك خفة دم واضحة، إلى أي مدى تحتمل القصيدة الحديثة الفكاهة؟
- الشعر أساساً ثقيل الدم. لكن قصيدة البحار القديم لإزرا باوند تنتهي بنكتة استعملها مرة المصريون في إحدى مسرحياتهم التهريجية: (أنا مش أبوك أنا أمك)!!؟؟ طبعاً في بدايتي كنت، بكل صفاقة، أدعي أني أقدم تصوراً مخالفاً في كل شيء للشعر.. كنت أقول أريد أن أكتب شعراً ضد الشعر.. لكني حينها كتبت (رحلات شقائق النعمان) و(المقاطع الخمسة) و(الدرس) و(تواريخ) وجميعها قصائد شبه ريلكية.. ما كنت أحاوله هو التخفيف من وطأة الشعر على الآخرين. أن أجعله ممتعاً، هذا ما يجعل الخفة واضحة عليه، لكنها أعود وأقول، خفة ظاهرية، فأنا أيضاً شاعر كئيب أبعث على الضجر..
أنت فنان تشكيلي أيضاً... لكن ما السر في تفوق قصيدتك، وهبوط ثمن لوحتك؟
- لست فناناً تشكيلياً، أقصد ما عدت كذلك، هذا إذا كنت يوماً. على أية حال، مهما هبط ثمن لوحتي، ليس على المستوى الاعتباري طبعاً، مادياً أعني، فلوحتي الرخيصة أغلى ثمناً من أي قصيدة نشرتها. تصور كتابي الأخير (من الصعب أن أبتكر صيفاً) الذي صدر في بداية 2008 عن شركة الريس، لتاريخه لم يتح لي أن أوقع على عقده.. وبالتالي لم أقبض عليه ليرة واحدة، وكذلك بالنسبة للجزء الأول من أعمالي الشعرية (المجموعات الأربع الأولى) الذي طبعه لي خالد خليفة بمجرد حديث بالهاتف.. أما معنوياً، سر تفوق قصيدتي هو أني جعلت من الشعر حياتي كلها، دع عنك الحب!؟ أنا، أشعر، أحياناً.. لا شيء سوى شاعر. ولكن لماذا المبالغة، أنا أيضاً زوجاً وأباً وجداً، وأجد أن مصيري مرتبط بمصير أناس كثيرين، بشعبي إذا سمحت لي باستخدام كلمة كهذه.. ذلك ما أدى بي لكتابة (سوريا وحدها بلدي كما خالدية أمي) و(كمطعون يخط اسم قاتله بدمه) و(مسودة دفاع عن تهم جاهزة).. الخبر الذي يصلح أن أنهي به هذه المقابلة، هو أني أستعد للقيام بمعرض تشكيلي جديد.. أظنه سيعيدني لسكة القطار القديم ذاتها.. أن أرسم وأكتب وأحب وأستضيف الأصدقاء لينظروا ماذا رسمت، وبدل المديح أو النقد، يهزون برؤوسهم ويقولون لي: هذا أنت..
إشكاليات أخرى
شبهة الانقياد للمزاج الشخصي!
صدر العام الماضي كتاب لك، بعنوان (انعطافة السبعينات) وكان في سياق الانطلوجيا الشعرية التي أصدرتها الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية2008. هل تعتبر أنك أوفيت جيل السبعينات حقه في ما ذهبت إليه؟
- نعم أظنني فعلت.. ولكني أعتبر الكتاب بحد ذاته مسودة كتاب!؟ ليس فقط بسبب الأخطاء الإملائية والمطبعية وأخرى تصنيف لها تنتشر على كل صفحاته، بل كان هناك تسرع في اختيار القصائد لعدد من الشعراء، وخاصة من لست على اطلاع حقيقي على تجربتهم!؟ كما أنني قصرت في إيراد عدد من الشعراء باعتبارات عديدة، كأمل الجراح مثلاً وأيمن أبو شعر الذي كان يشكل ظاهرة تلك الأيام، أما نوري الجراح الذي أعتبره سبعيني بامتياز، فقد آثر المشرف على الأنطلوجيا أن لا يتضمنه كتابي بسبب أنه وارد بين شعراء الجزء الرابع..
حضر في الكتاب شعراء لا يعرفهم أحد وغاب عنه شعراء معروفون وما زالوا متواجدين في الساحة الشعرية.. أليس في هذا شبهة الانقياد للمزاج الشخصي!؟
- كل كتاب، مهما ادعى الحيادية، يتحكم به رأي صاحبه؛ حتى في تحديد ما هو حيادي وما هو العكس.. نعم أوردت شاعراً يكاد الآن لا يعرف أسمه أحد، وهو محمد خير علاء الدين، وذلك لأني، وقد ذكرت هذا عنه، أعتبره الفرصة الضائعة للشعر السوري الحديث!؟ آخر مرة التقيت أدونيس، سألته ما إذا كان قوله: (إذا كان محمد خير ما زال يكتب الشعر، فالشعر بسوريا بخير!؟) أجابني، نعم.. قلت شيئاً كهذا لا ريب. وأريدك أن توصل لمحمد أنني مستعد لمد يد العون له بطباعة شعره في دار نشر معروفة!؟ أما محمد سيدة، فكيف أكون جاحداً ولا أذكره.. أما قولك ما زالوا متواجدين في الساحة الشعرية، فهذا لا علاقة له بمحور الكتاب، ألا وهو انعطافة السبعينات في الشعر السوري، الذين غاب عدد منهم للأبد.